فإن مبحث العارية في ناحيتين : ما هي العارية ، والثاني : حكمها أواجب أم مباح ، وحكم ضمانها مضمونة أم لا ؟
أما : هي إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال ، مع بقاء عينه . تعريفها عند الفقهاء
وقولهم مع بقاء عينه : كالقدر والفأس والإبرة والمنخل ، ونحو ذلك ، بخلاف ما يكون إتلافه في استعماله ، كالشمع للإضاءة ، والزيت للدهن ، والكحل للاكتحال ، ونحو ذلك ، مما تنفد عينه باستعماله ، فلا يكون عارية ، ولكن يكون قرضا ، والقرض يكون معاوضته بمثله .
أما . فقيل : جائز . حكم العارية
[ ص: 121 ] وقيل : بل واجب .
وقيل : مستحب .
وحكى الإجماع على استحبابها ، ودليل من قال بالوجوب بنص الآية : ابن قدامة ويمنعون الماعون ، ولحديث رضي الله عنه أبي هريرة " . في حق الإبل لما ذكر الزكاة " وأن حقها إعارة دلوها ، وإطراق فحلها ، ومنحه لبنها يوم ورودها
والواقع أن هذا الحديث ذكر فيه ما ليس بعارية قطعا ، مثل طرق الفحل ومنح اللبن ، مما يضعف الاستدلال به .
وقد ساق المجد في المنتقى برواية أحمد ولهم .
أما الوعيد في الآية فقالوا : هو منصب على الصفات الثلاث : السهو عن الصلاة ، والرياء في العمل ، ومنع الماعون جميعا ، ومن اتصف بواحدة فله قدره من الوعيد بحسبه .
وأقل ما يقال فيها ما جاء في قوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى [ 5 \ 2 ] ، والحديث الصحيح في حق الزكاة ، " . لما ذكر صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة والإبل والبقر والخيل ، وقال : " ولا ينسى حق الله في ظهرها
ثم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " [ 99 \ 7 ] . سئل عن الحمر ، فقال : " لم أجد إلا الآية الشاذة الفاذة :
وإعارة المتاع إباحة المنفعة وهي خير كثير .
والحديث الآخر : " " . لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس
ونقل الشوكاني عن الكشاف قولا : أنها ، وقبيح في غير الضرورة مروءة . ا هـ . تكون واجبة عند الاضطرار
والضرورة : مثل الدلو إذا وردت الماء ولا دلو معك ، وفي اضطرار إلى الماء .
وقياس الفقهاء : أنه لو تلف شيء بسبب ذلك لضمن المانع .
كما قالوا في الامتناع في بعض الصور : هل هو فعل أو ترك ؟ مثل من كان عنده [ ص: 122 ] خيط ، واحتيج إليه في خياطة جرح إنسان ، أو قطنة فمات ، فهل يعد ترك إعطاء الخيط مجرد ترك لا يؤاخذ عليه ، أو يعتبر فعلا لأنه تسبب عنه موت إنسان . ومثله منع الدلو ليروي أو يسقي إبله أو يشرب هو ؟
والصحيح عندهم : أن الترك في مثل هذه الحالة يؤاخذ عليه مؤاخذة الفعل ، كما قال صاحب مراقي السعود .
والترك فعل في صحيح المذهب
وهنا ما يشهد له الاستعمال العربي الصحيح ، كما قيل في بناء المسجد :
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
فسمي القعود عن العمل عملا مضللا ، فتحصل من هذا أن العارية مستحبة شرعا ومروءة وعرفا في حالة الاختيار ، وواجبة في حالة الاضطرار ، مع ملاحظة أن حالات الاستعارة أغلبها اضطرار ، إلا أن حالات الاضطرار تتفاوت ظروفها .
وقد امتدح الله الأنصار بأنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ 59 \ 9 ] ، فالعارية من باب أولى ، لأنه ينتفع بها وترد لصاحبها .
وقد امتدح الشاعر القوم بعدم منعهم الماعون ، بقوله :
قوم على الإسلام ولما يمنعوا ماعونهم ويضيع التهليلا
وإن كان بعض الناس حمل الماعون هنا على الزكاة ، ولكن قول الشاعر : قوم على الإسلام ، يتضمن إخراجهم الزكاة ضمن إسلامهم ، فيكون الباقي امتداد حالهم في خصوص الماعون .
بقي مبحث ضمانها : تختلف الأقوال في ، فبعضهم يعتبرها أمانة ، وعليه فلا تكون مضمونة وهذا مذهب الحنفية والمالكية ، إذا لم يحصل منه تعد . ضمان العارية
وعند الشافعي وأحمد : أنها مضمونة ، إلا إذا كانت على الوجه المأذون فيه .
كما قالوا في السيف : يستعيره فينكسر في القتال فلا ضمان فيه .
واستدل من قال بضمانها بالحديث العام : " " رواه [ ص: 123 ] على اليد ما أخذت ، حتى تؤديه المجد في المنتقى ، وقال : رواه الخمسة إلا . النسائي
وبحديث ، صفوان بن أمية حنين أذرعا قيل ثلاثين ، وقيل ثمانين ، وقيل مائة . فقال : أغصبا يا محمد ؟ قال : " بل عارية مضمونة ، فقال : فضاع بعضها ، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له ، فقال : أنا اليوم في الإسلام أرغب " رواه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم أحمد وأبو داود .
ونص الفقهاء أن ، إن كانت مثلية ، ويستدل له بما ضمانها بقيمتها يوم تلفت أو بمثلها حفصة لما ضربتها عائشة فسقطت على الأرض فانكسرت ، وانتثر الطعام ، فأخذ صلى الله عليه وسلم قصعة عائشة وردها إلى حفصة ، وقال : " قصعة بقصعة ، وطعام بطعام " أي أن الضمان إما بالمثل إن كان مثليا ، أو بالقيمة إن كان مقوما . جاء في قصعة
وإذا كانت العارية مضمونة وحكمها الجواز ، فللمستعير طلب ردها متى شاء ، إلا إذا تعلقت بها مصلحة المستعير ، ولا يمكن ردها إلا بمضرة عليه .
قالوا : كمن أعار سفينة وتوسط بها المستعير عرض البحر ، فلا يملك المعير ردها لتعذر ذلك وسط البحر .
وقيل : له طلبها ، وتكون بالأجرة على المستعير ، والأول أرجح .
وكالذي أعار أرضا للزرع ، وقبل أن يستحصد الزرع يطلبها صاحبها ، وهكذا . والله تعالى أعلم .
حكم من جحد العارية
إن حديث المرأة المخزومية مشهور ، وهو أنها كانت تستعير المتاع وتجحده ، فاشتهرت بذلك ، ثم إنها سرقت فقطعت في السرقة ، لا في جحد المتاع المستعار ، وهذا هو الأصح . لأن السرقة لا تكون إلا على وجه التخفي ومن حرز .
والاستعارة خلاف ذلك ، وإنما تدخل في قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ 4 \ 58 ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " " . على اليد ما أخذت حتى تؤديه
[ ص: 124 ] وحديث " " رواه أد الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك أبو داود ، وقال : حديث حسن . والترمذي
وهذا مجمل مباحث العارية ، وتفصيل فروعها في كتب الفقه أوجزنا منه ما يتعلق بمنع الماعون وعدم جواز منعه ، وما يتعلق ببذله ، وبالله تعالى التوفيق .