قوله تعالى : ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فكأن الناس يأتون من كل جهة حتى من اليمن ، وهذا يدل على كمال الدعوة ونجاح الرسالة .
ويدل لهذا مجيء آية : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وكان نزولها في حج تلك السنة .
ويلاحظ أن النصر هنا جاء بلفظ نصر الله ، وفي غير هذا جاء نصر الله ، وما النصر إلا من عند الله [ 8 \ 10 ] .
ومعلوم أن هذه الإضافة هنا لها دلالة تمام وكمال ، كما في بيت الله . مع أن المساجد كلها بيوت لله ، فهو مشعر بالنصر كل النصر ، أو بتمام النصر كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
والفتح ، هنا قيل : هو فتح مكة ، وقيل فتح المدائن وغيرها .
وتقدمت الإشارة إلى فتوحات عديدة قبل مكة .
وهناك مكة نص صلى الله عليه وسلم عليها منها في غزوة الأحزاب وهم يحفرون فتوحات موعود بها بعد فتح الخندق ، لما اعترضتهم كدية وأعجزتهم ، ودعي إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأخذ ماء وتمضمض ودعا ما شاء الله أن يدعو ثم ضرب ، فكانت كالكثيب .
[ ص: 139 ] وقد جاء فيها ابن كثير بعدة روايات وطرق مختلفة ، وكلها تذكر أنه صلى الله عليه وسلم ضرب ثلاث ضربات ، فأبرقت تحت كل ضربة برقة ، وكبر صلى الله عليه وسلم عند كل واحدة منها ، فسألوه فقال " في الأولى : " وذكر أعطيت مفاتيح فارس اليمن والشام ، وكلها روايات لا تخلو من نقاش ، ولكن لكثرتها يقوي بعضها بعضا .
وأقواها رواية بسنده قال : " النسائي الخندق ، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق ، وقال : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] ، فندر ثلث الحجر قائم ينظر ، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة ثم ضرب الثانية ، وقرأ ما قرأه أولا ، وبرقت أيضا . ثم الثالثة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تكسرت ، فأخذ رداءه صلى الله عليه وسلم وجلس ، فسأله سلمان لما رأى من البرقات الثلاث : فقال له : أرأيت ذلك ؟ قال : أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، فأخبرهم أنه رفعت له في الأولى مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رآها بعينه ، فقالوا : ادع الله لنا أن يفتح علينا . فدعا لهم ، وفي الثانية : رفعت له مدائن قيصر وما حولها ، وفي الثالثة مدائن وسلمان الفارسي الحبشة ، وكلها يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فتفتح عليهم ، فدعا لهم إلا في الحبشة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " دعوا الحبشة ما ودعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم " انتهى ملخصا . لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر
وقد رواه كل من ابن كثير مطولا ، فهذه الروايات وإن كانت تحتمل مقالا فقد جاء في الموطأ ما لا يحتمل مقالا ، ولا شك في صحته ، ولا في دلالته ، وهو ما رواه والنسائي مالك عن هشام عن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح الشام ، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، ويفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " . يفتح
فهذا نص صحيح صريح منه صلى الله عليه وسلم في حياته بفتح اليمن والشام والعراق ، وما فتحت كلها إلا من بعده صلى الله عليه وسلم إلا اليمن .
[ ص: 140 ] ويؤيد هذا القول ما أخرجه عن ابن جرير قال : " ابن عباس بالمدينة ، إذ قال : الله أكبر ، الله أكبر ، جاء نصر الله والفتح ، جاء أهل اليمن ، قيل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية " رواه بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن كثير عنه .
وقد كان مكة عام ثمان من الهجرة ، وجاءت الوفود في دين الله أفواجا عام تسع منها ، وجاء وفد فتح اليمن وأرسل صلى الله عليه وسلم عماله إلى اليمن بعد فتح مكة ، وقدم عليه علي رضي الله عنه من اليمن في العام العاشر في موسم الحج ، ففتحت اليمن بعد فتح مكة في حياته صلى الله عليه وسلم .
وعليه : تكون فتوحات قد وقعت بعد فتح مكة ، يمكن أن يشملها هنا قوله تعالى : والفتح ، وليس مقصورا على فتح مكة كما قالوا .
وقد يؤخذ بدلالة الإيماء : الوعد بفتوحات شاملة ، لمناطق شاسعة من قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق [ 22 \ 27 ] ; لأن الإتيان من كل فج عميق ، يدل على الإتيان إلى الحج من بعيد ، والإتيان إلى الحج يدل على الإسلام ، وبالتالي يدل على مجيء المسلمين من بعيد ، وهو محل الاستدلال والله تعالى أعلم .