. اختلف في الظرف هنا ، هل هو ظرف للوسواس حينما يوسوس ، فيكون موجودا في الصدور ، ويوسوس للقلب ، أو هو ظرف للوسوسة . ويكون المراد بالصدور القلوب ; لكونها حالة في الصدور من باب إطلاق المحل وإرادة الحال على ما هو جار في الأساليب البلاغية .
[ ص: 179 ] وعلى حد قوله تعالى : فليدع ناديه [ 96 \ 17 ] ، أطلق النادي ، وأراد من يحل فيه من القوم .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث تعدية الوسوسة تارة بإلى وتارة باللام ، ففي سورة الأعراف : فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، وفي طه : فوسوس إليه الشيطان [ 20 \ 120 ] .
وحاصل ما ذكره في الجمع بينهما أحد أمرين : إما أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ، وذكر شواهده ، وإما أن يكون وسوس ، أي : لأجله ووسوس إليه أي أنهى إليه الوسوسة ، ولكن هنا قال : في صدور الناس ، ولم يقل : إلى صدور الناس ، فهل هو من باب نيابة حروف الجر بعضها عن بعض أيضا ؟ أم هي ظرف محض ؟
والظاهر أنها ظرف ، ولكن هل من الظرف للوسواس ، أو ظرف للوسوسة نفسها ؟
وبالنظر إلى كلام المفسرين ، فإن كلام يحتمل اعتبار المعنيين بدون تعيين . ابن جرير
وأما القرطبي ، والألوسي ، فصرحا بما ظهر لهما ووصلا إليه .
فقال القرطبي ، قال مقاتل : إن الشيطان في صورة خنزير يجري من مجرى الدم في العروق ، سلطه الله على ذلك وذكر الحديث : . " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه "
وقال : إن قال : سألت ربي أن يريني الشيطان ، ومكانه من ابن آدم ، فرأيته يداه في يديه ، ورجلاه في رجليه ، ومشاعيه في جسده ، غير أن له خطما كخطم الكلب ؟ فإذا ذكر الله خنس ، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه . أبا ثعلبة الخشني
أما الألوسي فقد صرح بالتقسيم الذي أوردناه ، فقال : الذي يوسوس في صدور الناس . قيل : أريد قلوبهم مجازا .
وقال بعضهم : إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز ، فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ، ولا مانع عقلا من دخوله في جوف إنسان . وساق الحديث أيضا : " " إلى آخره . إن الشيطان يجري
[ ص: 180 ] ومراده بالمجاز ما قدمنا من إطلاق المحل وإرادة الحال .
وذكر ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن الصدر ظرف للوسواس ، وأنه يوقع الوسوسة في القلب . على ما قاله ابن عباس ومجاهد رحمهم الله .
وفي لفظ الناس هنا المضاف إليه الصدور : اختلاف في المراد منه ، فقيل : الإنس الظاهر الاستعمال .
وقيل : الثقلان : الإنس والجن .
وإن إطلاق الناس على الجنس مسموع ، كما حكاه القرطبي . قال عن بعض العرب : إنه كان يحدث فجاء قوم من الجن فوقفوا ، فقيل : من أنتم : فقالوا : ناس من الجن ، وهذا معنى قول الفراء .
واستدل صاحب هذا القول بطريق القياس باستعمال لفظي رجال ونفر في قوله تعالى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن [ 72 \ 6 ] ، وقوله : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن .
وعليه يكون الوسواس المستعاذ منه يوسوس في صدور الجن والإنس .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الوجه : ولكنه رده وضعفه ; لأن لفظ الناس أظهر وأشهر في الإنس ، وهو المعروف في استعمال القرآن ، ولأنه على هذا يكون قسم الشيء قسما منه ; لأنه يجعل الناس قسيم الجن ، ويجعل الجن نوعا من الناس ا هـ . ملخصا .
وعلى كل فإن منهج الأضواء أن ما كان محتملا ، وكان أكثر استعمالات القرآن لأحد الاحتمالين ، فإن كثرة استعماله إياه تكون مرجحا ، وجميع استعمالات القرآن للفظ الناس إنما هو في خصوص الإنس فقط ، ولم تستعمل ولا مرة واحدة في حق الجن مع مراعاة استعمالها في هذه السورة وحدها خمس مرات ، حتى سميت سورة الناس .
[ ص: 181 ] أما القياس على لفظتي رجل ونفر ، فقد رده شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا بأنهما وردا مقيدين " رجال من الجن " ، " نفرا من الجن " .
أما على الإطلاق فلم يردا ، وهكذا لفظ الناس فلا مانع من استعماله مقيدا ناس من الجن . أما على الإطلاق فلا .
وعليه فحيث ورد لفظ الناس هنا مطلقا فلا يصح حمله على الجن والإنس معا ، بل يكون خاصا بالإنس فقط ، ويكون في صدور الناس أي : في صدور الإنس .
وقد ذكر أبو السعود معنى آخر في لفظ الناس : وهو أن الناسي عن النسيان ، حذفت الياء تخفيفا لأن الوسواس لا يوسوس إلا في حين النسيان والغفلة .
وعليه يكون حذف الياء كحذفها من " الداع " في قوله : يوم يدعو الداعي [ 54 \ 6 ] ونحوه .
ولكن يبقى على هذا القول بيان من المراد بالناسي ، أهو من الإنس أم من الجن ، فلم يخرج عن الاحتمالين السابقين ، مع أن هذا القول من لوازم معنى الوسواس الخناس .
ويرد على هذا القول جمع الصدور وإفراد الناس ، والجمع لا يضاف إلا إلى جمع ، أي جمع الصدور ، لأن الفرد ليس له جمع من الصدور ، فيقابل الجمع بجمع ، أو يكتفي بالمفرد بمفرد .
وقد جاء في إضافة الجمع إلى المثنى في قوله : فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] .
قال أبو حيان : وحسنه أن المثنى جمع في المعنى ، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالا من المثنى ، والتثنية دون الجمع .
كما قال الشاعر :
فتخالسا نفسيهما بنوافذ كنوافذ العبط التي لا ترفع
[ ص: 182 ] وهذا كان القياس وذلك أن المعبر عن المثنى بالمثنى ، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع بأن التثنية جمع في المعنى والإفراد ، لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر .
كقوله :
حمامة بطن الواديين ترنمي
يريد بطني ، وغلط ابن مالك في التسهيل إذ قال : ونختار الإفراد على لفظ التثنية ، فتراه غلط ابن مالك في اختياره جواز إضافة الجمع إلى المفرد ، كما أنه قال : ولا يجوز ذلك إلا في الشعر ، وأنه مع المثنى لكراهية اجتماع التثنيتين ، فظهر بطلان قول أبي السعود .
أما الراجح في الوجهين في معنى الناس المتقدم ذكرهما . فهو الوجه الأول ، وهو أنهم الإنس ، وأن قوله تعالى : من الجنة والناس [ 114 \ 6 ] ، بيان لمن يقوم بالوسوسة ، أي : بيان للوسواس الخناس وأنه من كل من وسواس الجنة ووسواس الناس .
ويظهر ذلك من أمور : منها : أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته تبعا له فهو في حق الناس أظهر .
ومنها : أننا لو جعلنا الناس الأولى عامة لمن يوسوس إليه كان من الجنة والناس مصدر الوسوسة ، فيكون من وسواس الناس من يوسوس في صدور الجن . وهذا بعيد .
ومنها : أنه لو كان لفظ الناس يشمل الجن والإنس ، لما احتيج إلى هذا التقسيم " الجنة والناس " ، واكتفى في الثانية بما اكتفى به في الأولى ، وكان يكون الذي يوسوس في صدور الناس من الناس ، ولكن جاء بيان محل الوسوسة " صدور الناس " ، ثم جاء مصدر الوسوسة " الجنة والناس " ، والله تعالى أعلم .