المسألة الأولى : اعلم أن كثيرا من العلماء من المالكية والشافعية وغيرهم يفرقون بين لعيسى أو جبريل ، أو لكنائسهم ، قائلين : إن الأول مما أهل به لغير الله دون الثاني عندهم كراهة تنزيه ، مستدلين بقوله تعالى : ما ذبحه أهل الكتاب لصنم ، وبين ما ذبحوه وما ذبح على النصب [ 5 3 ] .
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذا الفرق باطل بشهادة القرآن لأن الذبيح على وجه القربة عبادة بالإجماع ، وقد قال تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 ] .
وقال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله الآية [ 6 162 ] .
فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله فقد جعله شريكا مع الله في هذه العبادة التي هي الذبح ، سواء كان نبيا أو ملكا أو بناء أو شجرا أو حجرا أو غير ذلك ، لا فرق في ذلك بين صالح وطالح ، كما نص عليه تعالى بقوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا [ 3 \ 80 ] .
ثم بين أن فاعل ذلك كافر بقوله تعالى : أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 80 ] .
وقال تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله الآية [ 3 \ 79 ] .
[ ص: 268 ] وقال تعالى : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية [ 3 64 ] ، فإن قيل : قد رخص في أكل ما ذبحوه لكنائسهم أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي والعرباض بن سارية والقاسم بن مخيمرة وحمزة بن حبيب وأبو سلمة الخولاني وعمر بن الأسود ومكحول وغيرهم . والليث بن سعد
فالجواب : أن هذا قول جماعة من العلماء من الصحابة ومن بعدهم ، وقد خالفهم فيه غيرهم . وممن خالفهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والإمام رحمه الله ، والله تعالى يقول : الشافعي فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية [ 4 59 ] ، فنرد هذا النزاع إلى الله فنجده حرم ما أهل به لغير الله .
وقوله : لغير الله ، يدخل فيه الملك والنبي ، كما يدخل فيه الصنم والنصب والشيطان وقد وافقونا في منع ما ذبحوه باسم الصنم ، وقد دل الدليل على أنه لا فرق في ذلك بين النبي والملك ، وبين الصنم والنصب ، فلزمهم القول بالمنع .
وأما استدلالهم بقوله : وما ذبح على النصب فلا دليل فيه لأن قوله تعالى : وما ذبح على النصب ليس بمخصص لقوله : وما أهل لغير الله به ، لأنه ذكر فيه بعض ما دل عليه عموم وما أهل لغير الله به .
وقد تقرر في علم الأصول أن على الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافا ذكر بعض أفراد الحكم العام بحكم العام ، لا يخصص محتجا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة ، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن ذكر البعض لا يخصص العام سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى : لأبي ثور حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] أو ذكر كل واحد منهما على حدة ، كحديث الترمذي وغيره : من حديث أيما إهاب دبغ فقد طهر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال : الحديث . هلا أخذتم إهابها
فذكر الصلاة الوسطى الأول لا يدل على عدم المحافظة على غيرها من الصلوات ، [ ص: 269 ] وذكر إهاب الشاة في الأخير لا يدل على عدم الانتفاع بإهاب غير الشاة ، لأن ذكر البعض لا يخصص العام .
وكذلك رجوع ضمير البعض لا يخصص أيضا على الصحيح كقوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك [ 2 228 ] ، فإن الضمير راجع إلى قوله : والمطلقات يتربصن [ 2 \ 228 ] ، وهو لخصوص الرجعيات من المطلقات مع أن تربص ثلاثة قروء عام للمطلقات من رجعيات وبوائن ، وإلى هذا أشار في مراقي السعود مبينا معه أيضا أن سبب الواقعة لا يخصصها وأن مذهب الراوي لا يخصص مرويه على الصحيح فيهما أيضا بقوله :
ودع ضمير البعض والأسبابا
وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد
أما عدم التخصيص بذكر البعض فلم يخالف فيه إلا ، وتقدم رد مذهبه . أبو ثور
ولو سلمنا أن الآية معارضة بقوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فإنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك مثل هذا الذي تعارضت فيه النصوص بقوله : . دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
المسألة الثانية : اختلف العلماء في ذكاة نصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهراء وجذام ولخم وعاملة ونحوهم ، فالجمهور على أن ذبائحهم لا تؤكل ، قاله ابن كثير وهو مذهب ونقله الشافعي النووي في شرح المهذب عن علي وعطاء . وسعيد بن جبير
ونقل النووي أيضا إباحة ذكاتهم عن ابن عباس والنخعي والشعبي وعطاء الخراساني والزهري والحكم وحماد وأبي حنيفة وإسحاق بن راهويه ، وصحح هذا القول وأبي ثور في المغني محتجا بعموم قوله : ابن قدامة وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم .
وحجة القول الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه قال : ما نصارى العرب بأهل كتاب لا تحل لنا ذبائحهم .
[ ص: 270 ] وما روي عن علي رضي الله عنه : لا تحل ذبائح نصارى بني تغلب لأنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل ، ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدل فصاروا كالمجوس لما أشكل أمرهم في الكتاب لم تؤكل ذبائحهم ، ذكر هذا صاحب المهذب وسكت عليه النووي في الشرح قائلا : إنه حجة الشافعية في منع ذبائحهم ، ويفهم منه عدم إباحة كل ذكاة اليهود والنصارى اليوم لتبديلهم لا سيما فيمن عرفوا منهم بأكل الميتة كالنصارى .
المسألة الثالثة : لا تحل للمسلمين ؟ قال ذبائح المجوس النووي في شرح المهذب : هي حرام عندنا ، وقال به جمهور العلماء ، ونقله ابن المنذر عن أكثر العلماء ، قال : وممن قال به سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والنخعي وعبيد الله بن يزيد ومرة الهمداني ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق .
وقال ابن كثير في تفسيره قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم .
وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي ، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء حتى قال عنه وأحمد بن حنبل : الإمام أحمد كاسمه ، يعني في هذه المسألة وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبو ثور أهل الكتاب ، ولكن لم يثبت بهذا اللفظ . سنوا بهم سنة
وإنما الذي في صحيح عن البخاري عبد الرحمن بن عوف هجر ، ولو سلم صحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فدل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل ، انتهى كلام ابن كثير بلفظه واعترض عليه في الحاشية الشيخ السيد محمد رشيد رضا بما نصه فيه : إن هذا مفهوم لقب وهو ليس بحجة .
قال مقيده عفا الله عنه : الصواب مع الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى ، واعتراض الشيخ عليه سهو منه ، لأن مفهوم قوله : الذين أوتوا الكتاب مفهوم علة لا مفهوم [ ص: 271 ] لقب ، كما ظنه الشيخ لأن في اصطلاح الأصوليين هو ما علق فيه الحكم باسم جامد سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع ، وضابطه أنه هو الذي ذكر ليمكن الإسناد إليه فقط لاشتماله على صفة تقتضي تخصيصه بالذكر دون غيره . مفهوم اللقب
أما تعليق هذا الحكم الذي هو إباحة طعامهم بالوصف بإيتاء الكتاب فهو تعليق الحكم بعلته لأن الوصف بإيتاء الكتاب صالح لأن يكون مناط الحكم بحلية طعامهم .
وقد دل المسلك الثالث من على أن مناط حلية طعامهم هو إيتاؤهم الكتاب ، وذلك بعينه هو المناط لحلية نكاح نسائهم ، لأن ترتيب الحكم بحلية طعامهم ونسائهم على إيتائهم الكتاب لو لم يكن لأنه علته لما كان في التخصيص بإيتاء الكتاب فائدة ، ومعلوم أن مسالك العلة المعروف بالإيماء والتنبيه من غير فائدة يفهم منه أنه علته بمسلك الإيماء والتنبيه . ترتيب الحكم على وصف لو لم يكن علته لكان حشوا
قال في مراقي السعود في تعداد صور الإيماء :
كما إذا سمع وصفا فحكم وذكره في الحكم وصفا قد ألم
إن لم يكن علته لم يفد ومنعه مما يفيت استفد
ترتيبه الحكم عليه واتضح
إلخ .ومحل الشاهد منه قوله : " استفد ترتيبه الحكم عليه " ، وقوله : " وذكره في الحكم وصفا إن لم يكن علته لم يفد " .
ومما يوضح ما ذكرنا أن قوله : الذين أوتوا الكتاب موصول وصلته جملة فعلية ، وقد تقرر عند علماء النحو في المذهب الصحيح المشهور أن الصفة الصريحة كاسم الفاعل واسم المفعول الواقعة صلة أل بمثابة الفعل مع الموصول ، ولذا عمل وصف المقترن بأل الموصولة في الماضي لأنه بمنزلة الفعل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وإن يكن صلة أل ففي المضي وغيره إعماله قد ارتضي
[ ص: 272 ] فظهر أن إيتاء الكتاب صفة خاصة بهم دون غيرهم ، وهي العلة في إباحة طعامهم ونكاح نسائهم ، فادعاء أنها مفهوم لقب سهو ظاهر .
وظهر من التحقيق أن المفهوم في قوله : الذين أوتوا الكتاب مفهوم علة ومفهوم العلة قسم من أقسام مفهوم الصفة ، فالصفة أعم من العلة وإيضاحه كما بينه القرافي أن الصفة قد تكون مكملة للعلة لا علة تامة كوجوب الزكاة في السائمة فإن علته ليست السوم فقط ، ولو كان كذلك لوجبت في الوحوش لأنها سائمة ولكن العلة ملك ما يحصل به الغنى وهي مع السوم أتم منها مع العلف وهذا عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة .
وظهر أن ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هو الصواب .
وقد تقرر في علم الأصول أن المفهوم بنوعيه من مخصصات العموم ، أما تخصيص العام بمفهوم الموافقة بقسميه فلا خلاف فيه .
وممن حكى الإجماع عليه : الآمدي والسبكي في شرح المختصر ، ودليل جوازه أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
ومثاله تخصيص حديث : أي يحل العرض بقوله مطلني والعقوبة بالحبس فإنه مخصص بمفهوم الموافقة الذي هو الفحوى في قوله : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته فلا تقل لهما أف [ 17 23 ] ، لأن فحواه تحريم أذاهما فلا يحبس الوالد بدين الولد .
وأما تخصيصه بمفهوم المخالفة ففيه خلاف ، والأرجح منه هو ما مشى عليه الحافظ ابن كثير تغمده الله برحمته الواسعة وهو التخصيص به .
والدليل عليه ما قدمنا من أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
وقيل : لا يجوز التخصيص به ، ونقله الباجي عن أكثر المالكية .
وحجة هذا القول أن دلالة العام على ما دل عليه المفهوم بالمنطوق وهو مقدم على المفهوم ، ويجاب بأن المقدم عليه منطوق خاص لا ما هو من إفراد العام ، فالمفهوم مقدم عليه لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
واعتمد التخصيص به صاحب مراقي السعود في قوله في مبحث الخاص في الكلام على المخصصات المنفصلة : [ ص: 273 ]
واعتبر الإجماع جل الناس وقسمي المفهوم كالقياس
المسألة الرابعة : حلال للمسلم ، لأن العقر ذكاة الصيد وعلى هذا القول الأئمة الثلاثة ، وبه قال ما صاده الكتابي بالجوارح والسلاح عطاء والليث والأوزاعي وابن المنذر وداود وجمهور العلماء ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب .
وحجة الجمهور واضحة وهي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وخالف مالك وابن القاسم ففرقا بين ذبح الكتابي وصيده مستدلين بقوله تعالى : تناله أيديكم ورماحكم [ 5 \ 94 ] ، لأنه خص الصيد بأيدي المسلمين ورماحهم دون غير المسلمين .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله أعلم ، أن هذا الاحتجاج لا ينهض على الجمهور ، وأن الصواب مع الجمهور .
وقد وافق الجمهور من المالكية أشهب وابن هارون وابن يونس والباجي واللخمي ، ولمالك في الموازنة كراهته ، قال ابن بشير : ويمكن حمل المدونة على الكراهة .
المسألة الخامسة : كذبائحهم في دار الإسلام ، قال ذبائح أهل الكتاب في دار الحرب النووي : وهذا لا خلاف فيه ، ونقل ابن المنذر الإجماع عليه .