هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باق بقاء لا انقطاع له أبدا ونظيرها قوله تعالى : فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [ 11 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : لابثين فيها أحقابا [ 78 23 ] .
وقد جاءت آيات تدل على أن عذابهم لا انقطاع له كقوله : خالدين فيها أبدا [ 4 \ 57 ] .
والجواب عن هذا من أوجه :
أحدها : أن قوله تعالى : إلا ما شاء الله معناه إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين .
وقد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها وهم أهل الكبائر من الموحدين ، ونقل هذا القول عن ابن جرير قتادة والضحاك وأبي سنان ، واختاره وخالد بن معدان ، وغاية " ما " في هذا القول إطلاق " ما " وإرادة من ونظيره في القرآن : ابن جرير فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 3 ]
الثاني : أن المدة التي استثناها الله هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم قاله أيضا . ابن جرير
الوجه الثالث : أن قوله : إلا ما شاء الله فيه إجمال وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبدا ، وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له ، والظهور من المرجحات فالظاهر مقدم على المجمل ، كما تقرر في الأصول .
ومنها أن " إلا " في سورة " هود " بمعنى : سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض .
وقال بعض العلماء : إن الاستثناء على ظاهره وأنه يأتي على النار زمان ليس فيها أحد .
[ ص: 282 ] وقال : ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعدما يلبثون أحقابا . ابن مسعود
وعن : أنها تأكلهم بأمر الله . ابن عباس
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله أعلم ، أن هذه النار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين ، كما جزم به البغوي في تفسيره ، لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة ، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن ، أما ما يقوله كثير من العلماء من الصحابة ، ومن بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها ، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته ، وإيضاحه أن المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم الصحيح ، وغيرها راجع إليها .
الأولى : أن يقال بفناء النار ، وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها .
الثانية : أن يقال إنهم ماتوا وهي باقية .
الثالثة : أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية .
الرابعة : أن يقال إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخف عليهم .
وذهاب العذاب رأسا واستحالته لذا لم نذكرهما من الأقسام ، لأنا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب ، ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذا فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما ، وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه .
أما فناؤها فقد نص تعالى على عدمه بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] .
وقد قال تعالى : إلا ما شاء ربك [ 11 \ 107 ] ، في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار وبين عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، وبقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، وقوله : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
[ ص: 283 ] وبين عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا .
فمن يقول إن للنار خبوة ليس بعدها زيادة سعير ، رد عليه بهذه الآية الكريمة ، ومعلوم أن كلما تقتضي التكرار بتكرار الفعل الذي بعدها ، ونظيرها قوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها الآية [ 4 56 ] .
وأما موتهم فقد نص تعالى على عدمه بقوله : لا يقضى عليهم فيموتوا [ 35 \ 36 ] ، وقوله : لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 ] ، وقوله : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت [ 14 \ 17 ] ، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملج فيذبح ، وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت ، كما قال صلى الله عليه وسلم : . ويقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت
وأما إخراجهم منها فنص تعالى على عدمه بقوله : وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] ، وبقوله : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 20 ] ، وبقوله : وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] .
وأما تخفيف العذاب عنهم فنص تعالى على عدمه بقوله : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 13 ] ، وقوله : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 ] ، وقوله : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 ] ، وقوله : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] ، وقوله : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] ، وقوله تعالى : فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون [ 16 \ 85 ] .
وقوله : ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] ، ولا يخفى أن قوله : ولا يخفف عنهم من عذابها وقوله : لا يفتر عنهم كلاهما فعل في سياق النفي ، فحرف النفي بنفي المصدر الكامن في الفعل فهو في معنى لا تخفيف للعذاب عنهم ، ولا تفتير له ، والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات بل يلزمه ذهابهما رأسا ، كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله : فسوف يكون لزاما وقوله : إن عذابها كان غراما وإقامته المنصوص عليها بقوله : ولهم عذاب مقيم .
[ ص: 284 ] فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله : كلما خبت زدناهم سعيرا وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فرض أن الله أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها لأنه وعيد ، وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح ، وأن الله تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده ، وأن الشاعر قال :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فالظاهر عدم صحته لأمرين :الأول : أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر ، لأن الخبر بذلك وعيد ، وإخلافه على هذا القول لا بأس به .
الثاني : أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذب رسله حيث قال : كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] .
وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل كقولهم : سها فسجد ، أي سجد لعلة سهوه ، وسرق فقطعت يده أي لعلة سرقته ، فقوله : كل كذب الرسل فحق وعيد أي وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل ، ونظيرها قوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] .
ومن الأدلة الصريحة في ذلك تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار حيث قال \ 47 لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ 50 \ 28 - 29 ] .
ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى : واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده - إلى قوله - إن وعد الله حق [ 31 \ 33 ] ، وقوله : إن عذاب ربك لواقع [ 52 \ 7 ] ، فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيد عصاة المؤمنين لأن الله بين ذلك بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] .
فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام تعين القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبدا بلا انقطاع ولا تخفيف بالتقسيم والسبر الصحيح .
ولا غرابة في ذلك لأنه خبثهم الطبيعي دائم لا يزول ، فكان جزاؤهم دائما لا يزول [ ص: 285 ] والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم الآية [ 8 \ 23 ] .
فقوله : خيرا نكرة في سياق الشرط فهي تعم ، فلو كان فيهم خير ما في وقت ما لعلمه الله ، وقوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه [ 6 28 ] ، وعودهم بعد معاينة العذاب ، لا يستغرب بعده عودهم بعد مباشرة العذاب لأن رؤية العذاب عيانا كالوقوع فيه لا سيما وقد قال تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] ، وقال : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 38 ] .
وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص ، كما أشار له تعالى بقوله ولا يزكيهم [ 2 \ 174 ] ، وبقوله : ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، والعلم عند الله تعالى .