سورة الحج
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا . قوله تعالى :
هذه الآية الكريمة تدل على أن مأذون فيه لا واجب ، وقد جاءت آيات تدل على وجوبه كقوله قتال الكفار فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية [ 9 \ 5 ] .
وقوله : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب ظاهر ، وهو أنه أذن فيه أولا من غير إيجاب ، ثم أوجب بعد ذلك كما تقدم في سورة " البقرة " ، ويدل لهذا ما قاله ابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره من أن آية : أذن للذين يقاتلون هي ، والعلم عند الله تعالى . أول آية نزلت في الجهاد
قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
ظاهر هذه الآية أن الأبصار لا تعمى ، وقد جاءت آيات أخر تدل على عمى الأبصار كقوله : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وكقوله : ليس على الأعمى حرج [ 24 \ 61 ] .
والجواب أن التمييز بين الحق والباطل ، وبين الضار والنافع ، وبين القبيح والحسن ، لما كان كله بالبصائر لا بالأبصار ، صار العمى الحقيقي هو عمى البصائر لا عمى الأبصار ، ألا ترى أن صحة العينين لا تفيد مع عدم العقل كما هو ضروري ، وقوله : فأصمهم وأعمى أبصارهم يعني بصائرهم أو أعمى أبصارهم عن الحق وإن رأت غيره .
[ ص: 345 ] قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
هذه الآية الكريمة تدل على أن ، وكذلك قوله تعالى : مقدار اليوم عند الله ألف سنة يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] .
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، هي قوله تعالى في سورة " سأل سائل " : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] .
اعلم أولا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن أنه حضر كلا من ابن أبي مليكة ابن عباس سئل عن هذه الآيات فلم يدر ما يقول فيها ، ويقول : لا أدري . وسعيد بن المسيب
وللجمع بينهما وجهان :
الأول : هو ما أخرجه من طريق ابن أبي حاتم سماك عن عكرمة عن ، من أن يوم الألف في سورة " الحج " هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ويوم الألف في سورة " السجدة " ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ، ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة . ابن عباس
الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ، ويدل لهذا قوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن ، أي تلاوته إذا تلا . كل رسول وكل نبي يلقي الشيطان في أمنيته
ومنه قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه :
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
[ ص: 346 ] وقول الآخر :تمنى كتاب الله آخر ليلة تمني داود الزبور على رسل
وقال بعض العلماء : إذا تمنى أحب شيئا وأراده ، فكل نبي يتمنى إيمان أمته ، والشيطان يلقي عليهم الوساوس والشبه ، ليصدهم عن سبيل الله ، وعلى أن تمنى بمعنى قرأ وتلا ، كما عليه الجمهور ، فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته ، إلقاؤه الشبه والوساوس فيما يتلوه النبي ليصد الناس عن الإيمان به ، أو إلقاؤه في المتلو ما ليس منه ليظن الكفار أنه منه .
وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآية المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد الله المؤمنين المتوكلين ، ومعلوم أن خيارهم الأنبياء كقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] ، وقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، وقوله : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 - 83 ] . وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 22 ] .
ووجه كون الآيات لا تعارض بينها ، أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء :
الأول : أن معنى السلطان الحجة الواضحة ، وعليه فلا إشكال ، إذ لا حجة مع الشيطان البتة ، كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي .
الثاني : أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه ، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما ، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه ، فإلقاء الشيطان في أمنية النبي سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته ، لا يتضمن [ ص: 347 ] سلطانا للشيطان على النبي ، بل من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق كقوله : وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل الآية [ 27 \ 24 ] .
فإن قيل : ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة " النجم ، بمكة ، فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 19 - 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترجى ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون ، وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع المهاجرون من الحبشة ، ظنا منهم أن قومهم أسلموا ، فوجدوهم على كفرهم .
وعلى هذا الذي ذكره كثير من المفسرين ، فسلطان الشيطان بلغ إلى حد أدخل به في القرآن ، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الكفر البواح ، حسبما يقتضيه ظاهر القصة المزعومة .
فالجواب أن مع استحالتها شرعا لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج ، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من العلماء ، كما بيناه بيانا شافيا في رحلتنا . قصة الغرانيق
والمفسرون يروون هذه القصة عن من طريق ابن عباس الكلبي عن أبي صالح عن رضي الله عنهما ، ومعلوم أن ابن عباس الكلبي متروك .
وقد بين البزار أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن مع الشك الذي وقع في وصله . سعيد بن جبير
وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره لثبوت هذه القصة ، بأن طرقها كلها ، إما منقطعة أو ضعيفة ، إلا طريق . سعيد بن جبير
وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق لم يروها بها أحد متصلة إلا سعيد بن جبير أمية بن خالد ، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها ، فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن عن سعيد بن جبير فيما أحسب ، ثم ساق حديث القصة المذكورة ، وقال : ابن عباس البزار لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور .
وقال البزار : وإنما يروى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ، ابن عباس والكلبي [ ص: 348 ] متروك ، فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الطريق الذي شك راويه في الوصل ، وما كان كذلك فضعفه ظاهر .
ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح . وقال العلامة الشوكاني في هذه القصة : ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه ، فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله : ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية [ 69 \ 44 ] ، وقوله : وما ينطق عن الهوى [ 53 3 ] ، وقوله : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم الآية [ 17 ] .
فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون ، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل ، وعن البيهقي أنه قال : هي غير ثابتة من جهة النقل .
وذكر عن إمام الأئمة أن هذه القصة من وضع الزنادقة ، وأبطلها ابن خزيمة عياض وابن العربي المالكيين وجماعات كثيرة . والفخر الرازي
ومن أصرح الأدلة القرآنية في بطلانها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذلك في سورة " النجم " قوله تعالى : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، فلو فرضنا أنه قال تلك الغرانيق العلا ، ثم أبطل ذلك بقوله : إن هي إلا أسماء سميتموها فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم ، بأنها أسماء بلا مسميات ، وهذا هو الأخير .
وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة " النجم " بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح ، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق ، وعلى القول ببطلانها فلا إشكال .
وأما على القول بثبوت القصة ، كما هو رأي الحافظ ابن حجر ، فإنه قال في فتح الباري : إن هذه القصة ثبتت بثلاثة أسانيد ، كلها على شرط الصحيح ، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها ، دل ذلك على أن لها أصلا .
فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة ، من أحسنها وأقربها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات فلما قرأ : ومناة الثالثة الأخرى ، قال الشيطان لعنه الله محاكيا [ ص: 349 ] لصوته صلى الله عليه وسلم : تلك الغرانيق العلا إلخ . . . فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم ، وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس .
وقد بينا هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتنا ، فلذلك اختصرناها هنا ، فظهر أنه لا تعارض بين الآيات ، والعلم عند الله تعالى .