سورة الأعلى
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله الآية . قوله تعالى :
هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ينسى من القرءان ما شاء الله أن ينساه ، وقد جاءت آيات كثيرة تدل على كقوله تعالى : حفظ القرءان من الضياع لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 - 17 ] ، وقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .
والجواب أن القرءان وإن كان محفوظا من الضياع فإن بعضه ينسخ بعضا ، وإنساء الله نبيه بعض القرءان في حكم النسخ ، فإذا أنساه آية فكأنه نسخها ، ولا بد أن يأتي بخير منها أو مثلها ، كما صرح به تعالى في قوله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] .
وقوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل الآية [ 16 \ 101 ] .
وأشار هنا لعلمه بحكمة النسخ بقوله : إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 7 ] .
وقوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى .
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن التذكير ، لا يطلب إلا عند مظنة نفعه ، بدليل أن الشرطية .
وقد جاءت آيات كثيرة تدل على الأمر بالتذكير مطلقا ، كقوله : فذكر إنما أنت مذكر [ 88 \ 21 ] وقوله : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 ] .
وأجيب عن هذا بأجوبة كثيرة :
[ ص: 439 ] منها أن في الكلام حذفا أي : إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر [ 16 \ 81 ] ، أي والبرد ، وهو قول الفراء والنحاس والجرجاني وغيرهم .
ومنها أنها بمعنى : إذ ، وإتيان : " إن " بمعنى : إذ مذهب الكوفيين خلافا للبصريين .
وجعل منه الكوفيون قوله تعالى : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 112 ] .
وقوله تعالى : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 139 ] ، وقوله تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 23 ] ، وقوله : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ 48 \ 27 ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : . وإنا إن شاء الله بكم لاحقون
وقول : الفرزدق
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازم
وأجاب البصريون عن آيات إن كنتم مؤمنين ، بأن فيها معنى الشرط ، جيء به للتهييج ، وعن آية إن شاء الله ، والحديث بأنهما تعليم للعباد كيف يتكلمون ، إذا أخبروا عن المستقبل ، وعن البيت بجوابين :أحدهما : أنه من إقامة السبب مقام المسبب ، والأصل : أتغضب إن افتخر مفتخر بحز أذني قتيبة ، إذ الافتخار بذلك يكون سببا للغضب ، ومسببا عن الحز .
الثاني : تغضب إن تبين في المستقبل ، أن أذني قتيبة حزتا .
ومنها أن معنى إن نفعت الذكرى الإرشاد إلى التذكير بالأهم ، أي ذكر بالمهم الذي فيه النفع دون ما لا نفع فيه ، فيكون المعنى ذكر الكفار مثلا بالأصول التي هي التوحيد ، لا بالفروع ، لأنها لا تنفع دون الأصول ، وذكر المؤمن التارك لفرض مثلا بذلك الفرض المتروك لا بالعقائد ونحو ذلك لأنه أنفع .
ومنها أن " إن " ، بمعنى : قد وهو قول قطرب .
[ ص: 440 ] ومنها أنها صيغة شرط أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكرهم ، كما قال الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
والذي يظهر لمقيد هذه الحروف عفا الله عنه ، هو بقاء الآية الكريمة على ظاهرها ، وأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن يكرر لذكري تكريرا تقوم به حجة الله على خلقه مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة ، أما إذا علم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم أنه لا فائدة فيه ، لأن العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه .
وقد قال الشاعر :
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء بعيد نفعه الدهر ساعيا
وبيان ذلك أنه تارة يعلمه بإعلام الله به ، كما وقع في أبي لهب ، حيث قال تعالى فيه : سيصلى نارا ذات لهب وامرأته الآية [ 111 \ 3 - 4 ] .
فأبو لهب هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذكرى ، لأن القرءان نزل بأنهما من أهل النار بعد تكرار التذكير لهما تكرارا تقوم عليهما به الحجة ، فلا يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك أن يذكرهما بشيء ، لقوله تعالى في هذه الآية : فذكر إن نفعت الذكرى .
وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال ، بحيث يبلغ على أكمل وجه ، ويأتي بالمعجزات الواضحة ، فيعلم أن بعض الأشخاص عالم بصحة نبوته ، وأنه مصر على الكفر عنادا ولجاجا ، فمثل هذا لا يجب تكرير الذكرى له دائما ، بعد أن تكرر عليه تكريرا تلزمه به الحجة .
وحاصل إيضاح هذا الجواب أن الذكرى تشتمل على ثلاث حكم :
الأولى : خروج فاعلها من عهدة الأمر بها .
الثانية : رجاء النفع لمن يوعظ بها ، وبين الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى : [ ص: 441 ] قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ 7 \ 164 ] ، وبين الأولى منهما بقوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ، وقوله تعالى : إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] ، ونحوها من الآيات . وبين الثانية بقوله : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 ] .
الثالثة : إقامة الحجة على الخلق ، وبينها تعالى بقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] وبقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا الآية [ 20 \ 134 ] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كرر الذكرى حصلت الحكمة الأولى والثالثة ، فإن كان في الثانية طمع استمر على التذكير وإلا لم يكلف بالدوام ، والعلم عند الله تعالى .
وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها ، وأن معناها : فذكر مطلقا إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادرة منه ؟ إلا لدليل يجب الرجوع له ، وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها .
جنح ابن كثير حيث قال في تفسيرها : أي ذكر حيث تنفع التذكرة ، ومن هنا يؤخذ ، فلا يضعه في غير أهله ، كما قال الأدب في نشر العلم علي رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان فتنة لبعضهم ، وقال : حدث الله الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله .
تنبيه
هذا الإشكال الذي في هذه الآية ، إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة ، وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطا كان أو غيره ، كأبي حنيفة ؟ فلا إشكال في الآية ، وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاني ، فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع ، وسكتت عن حكمه عند عدم مظنة النفع فيطلب من دليل آخر ، فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقا .