بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه شعيبا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعه الله من الكفار ، وأعز جانبه بسبب العواطف العصبية ، والأواصر النسبية من قومه الذين هم كفار .
وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ، ويعزه بنصرة قريبه الكافر ، كما بينه تعالى في مواضع أخر ، كقوله في صالح وقومه : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله . الآية [ 27 \ 49 ]
ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء ، وأنهم لو فعلوا به ذلك خفاء وسرقة لكانوا يحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءا ، ولا شهدوا ذلك ولا حضروه خوفا من عصبته . فهو عزيز الجانب بسبب عصبته الكفار ، وقد قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم : [ ص: 199 ] ألم يجدك يتيما فآوى [ 93 \ 6 ] ، أي : آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب .
وذلك بسبب العواطف العصبية ، والأواصر النسبية ، ولا صلة له بالدين البتة ، فكونه جل وعلا يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم بإيواء أبي طالب له دليل على أن الله قد ينعم على المتمسك بدينه بنصرة قريبه الكافر .
ومن ثمرات تلك العصبية النسبية قول أبي طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
أبشر بذاك وقر منه عيونا
ونمنعه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين .
ولما ناصر بنو المطلب بن عبد مناف بني هاشم ، ولم يناصرهم بنو عبد شمس بن عبد مناف ، وبنو نوفل بن عبد مناف - عرف النبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب تلك المناصرة التي هي عصبية نسبية لا صلة لها بالدين ، فأعطاهم من خمس الغنيمة مع بني هاشم ، وقال : " وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام " ومنع إنا بني عبد شمس ، وبني نوفل من خمس الغنيمة ، مع أن الجميع أولاد عبد مناف بن قصي .
وقال أبو طالب في بني عبد شمس وبني نوفل :
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجل غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا والغياطل
كأنه في العز قيس بن عدي في دار سعد ينتدي أهل الندى
فهذه الآيات القرآنية تدل على أن ، وربما كان لذلك أثر حسن على الإسلام والمسلمين ، وقد يكون من منن الله على بعض أنبيائه المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الله قد يعين المؤمن بالكافر لتعصبه له " ، وفي المثل : " اجتن الثمار وألق الخشبة في النار " . إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
فإذا عرفت دلالة القرآن على أن المسلم قد ينتفع برابطة نسب وعصبية من كافر ، فاعلم أن لا يجوز . لإجماع المسلمين على أن النداء بالروابط العصبية ونحوها . المسلم لا يجوز له الدعاء بـ " يا لبني فلان "
وقد ثبت في " صحيح " من حديث البخاري جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تلك الدعوة : " " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " دعوها " يدل على وجوب تركها ; لأن صيغة " افعل " للوجوب إلا لدليل صارف عنه ، وليس هنا دليل صارف عنه ، ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة ، وما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه ، وإنما الواجب على المسلمين النداء برابطة الإسلام التي هي من شدة قوتها تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد إنسان واحد ، فهي تربطك بأخيك المسلم كربط أعضائك بعضها ببعض ، قال صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها منتنة " . إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى
وإذا تأملت قوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [ 58 \ 22 ] ، تحققت أن الروابط النسبية تتلاشى مع الروابط الإسلامية ، وقد قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة [ 49 \ 10 ] ، وقال : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] .
ولا يخفى أن أسلافنا معاشر المسلمين إنما فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية ، لا بروابط عصبية ، ولا بأواصر نسبية .