ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه خلق الإنسان من نطفة ، وهي مني الرجل ومني المرأة ; بدليل قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، أي : أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة .
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط : من ماء الرجل وماء المرأة . وأخرج الطستي عن : أن ابن عباس نافع بن الأزرق ، قال : أخبرني عن قوله : من نطفة أمشاج ، قال : . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم . أما سمعت اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم أبا ذؤيب وهو يقول :
كأن الريش والفوقين منه خلال النصل خالطه مشيج
ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي ، وأنشده هكذا :
كأن النصل والفوقين منها خلال الريش سيط به مشيج
كأن المتن والشرجين منه خلاف النصل سيط به مشيج
قال : ورواه أبو عبيدة :
كأن الريش والفوقين منها خلال النصل سيط به المشيج
ومعنى " سيط به المشيج " : خلط به الخلط .
إذا عرفت معنى ذلك ، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفة ، منه ما هو خارج من الصلب ، أي : وهو ماء الرجل ، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو : ماء المرأة ، وذلك في قوله - جل وعلا - : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 5 - 7 ] [ ص: 331 ] لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره ، والمراد بالترائب : ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها ، ومنه قول امرئ القيس :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
والزعفران على ترائبها شرقا به اللبات والنحر
فقوله هنا : " من بين الصلب والترائب " [ 86 \ 7 ] ، يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة ، وأمر الإنسان بأن ينظر مم خلق في قوله : فلينظر الإنسان مم خلق [ 86 \ 5 ] تنبيه له على حقارة ما خلق منه ; ليعرف قدره ، ويترك التكبر والعتو ، ويدل لذلك قوله : ألم نخلقكم من ماء مهين الآية [ 77 \ 20 ] .
وبين - جل وعلا - حقارته بقوله : أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 38 ] ، والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله : مما يعلمون [ 70 \ 39 ] ، فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان . وفي ذلك أعظم ردع ، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم .