قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17nindex.php?page=treesubj&link=28989وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله .
اعلم أولا أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول ، وذكرنا من ذلك أمثلة متعددة .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية على قولين وفي نفس الآية قرينة تدل على صحة أحدهما وعدم صحة الآخر .
أما القول الذي تدل القرينة في الآية على خلافه ، فهو أن
أصحاب الكهف كانوا في زاوية من الكهف ، وبينهم وبين الشمس حواجز طبيعية من نفس الكهف ، تقيهم حر الشمس عند طلوعها وغروبها ، على ما سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى .
وأما القول الذي تدل القرينة في هذه الآية على صحته ، فهو أن
أصحاب الكهف كانوا في فجوة من الكهف على سمت تصيبه الشمس وتقابله ، إلا أن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم على وجه خرق العادة ، كرامة لهؤلاء القوم الصالحين ، الذين فروا بدينهم طاعة لربهم جل وعلا .
والقرينة الدالة على ذلك هي قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذلك من آيات الله [ 18 \ 17 ] ، إذ لو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمرا معتادا مألوفا ، وليس فيه غرابة حتى يقال فيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذلك من آيات الله . وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه أنه تشهد له القرينة المذكورة ; فمعنى تزاور الشمس عن كهفهم ذات اليمين عند طلوعها ، وقرضها إياهم ذات الشمال عند غروبها هو أن الله يقلص ضوءها عنهم ، ويبعده إلى جهة اليمين عند الطلوع ، وإلى جهة الشمال عند الغروب ، والله جل وعلا قادر على كل شيء ، يفعل ما يشاء ، فإذا علمت هذا فاعلم أن أصحاب القول الأول اختلفوا في
nindex.php?page=treesubj&link=32007كيفية وضع الكهف ، وجزم
[ ص: 219 ] ابن كثير في تفسيره بأن الآية تدل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال ، قال : لأنه تعالى أخبر بأن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ذات اليمين ، أي يتقلص الفيء يمنة . كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير وقتادة : تزاور ، أي تميل ، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في ذلك المكان ، ولهذا قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال [ 18 \ 17 ] ، أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية الشرق ، فدل على صحة ما قلناه ، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب .
وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل إليه منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ، ولا تزاور الفيء يمينا وشمالا ، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب ، فتعين ما ذكرناه ، ولله الحمد . انتهى كلام
ابن كثير .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي في تفسيره : أصحاب هذا القول قالوا إن باب الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله ، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف ، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل إليه ، انتهى كلام
الرازي . وقال
أبو حيان في تفسير هذه الآية : وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاوية ، وقال
عبد الله بن مسلم : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش ، وعلى هذا كان أعلى الكهف مستورا من المطر .
قال
ابن عطية : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ، اختار الله لهم مضجعا متسعا في مقنأة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم ، انتهى الغرض من كلام
أبي حيان . والمقنأة : المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ، إلى غير ذلك من أقوال العلماء .
والقول الأول أنسب للقرينة القرآنية التي ذكرنا .
وممن اعتمد القول الأول لأجل القرينة المذكورة
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج ، ومال إليه بعض الميل
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي والشوكاني في تفسيريهما ، لتوجيههما قول
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج المذكور بقرينة الآية المذكورة .
[ ص: 220 ] وقال
الشوكاني رحمه الله في تفسيره : ويؤيد القول الأول قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذلك من آيات الله ، فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة ، أنسب بمعنى كونها آية ، ويؤيده أيضا إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا ، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر :
ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
انتهى كلام
الشوكاني .
ومعلوم أن الفجوة : هي المتسع . وهو معروف في كلام العرب ومنه البيت المذكور ، وقول الآخر :
ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل
ومنه الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008085 " فإذا وجد فجوة نص " .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17وترى الشمس إذا طلعت ، أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل على كهفهم ، والمعنى : أنك لو رأيتهم لرأيتهم كذلك ، لا أن المخاطب رآهم بالفعل ، كما يدل لهذا المعنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=18لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا الآية [ 18 \ 18 ] ، والخطاب بمثل هذا مشهور في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم ، وأصل مادة التزاور : الميل ، فمعنى " تزاور " : تميل . والزور : الميل ، ومنه شهادة الزور ، لأنها ميل عن الحق . ومنه الزيارة ; لأن الزائر يميل إلى المزور ، ومن هذا المعنى قول
عنترة في معلقته :
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم
وقول
nindex.php?page=showalam&ids=16674عمر بن أبي ربيعة :
وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال حباب وشخصي خشية الحي أزور
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذات اليمين أي جهة اليمين ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين . وقال
أبو حيان في البحر : وذات اليمين : جهة يمين الكهف ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين ، يعني يمين الداخل إلى الكهف ، أو يمين الفتية . اهـ ، وهو منصوب على الظرف .
nindex.php?page=treesubj&link=32007_28989وقوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17وإذا غربت تقرضهم ، من القرض بمعنى القطيعة والصرم ; أي
[ ص: 221 ] تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم ، وهذا المعنى معروف من كلام العرب ، ومنه قول
غيلان ذي الرمة :
نظرت بجرعاء السبية نظرة ضحى وسواد العين في الماء شامس
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس
فقوله : " يقرضن أقواز مشرف " ، أي يقطعنها ويبعدنها ناحية الشمال ، وعن أيمانهن الفوارس ، وهو موضع أو رمال الدهناء ، والأقواز : جمع قوز - بالفتح - وهو العالي من الرمل كأنه جبل ، ويروى " أجواز مشرف " جمع جوز ، من المجاز بمعنى الطريق . وهذا الذي ذكرنا هو الصواب في معنى قوله تعالى : تقرضهم خلافا لمن زعم أن معنى تقرضهم : تقطعهم من ضوئها شيئا ثم يزول سريعا كالقرض يسترد ، ومراد قائل هذا القول أن الشمس تميل عنهم بالغداة ، وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة ، بقدر ما يطيب لهم هواء المكان ولا يتعفن .
قال
أبو حيان في البحر : ولو كان من القرض الذي يعطى ثم يسترد لكان الفعل رباعيا ، فتكون التاء في قوله : " تقرضهم " مضمومة ، لكن دل فتح التاء من قوله " تقرضهم " على أنه من القرض بمعنى القطع ، أي تقطع لهم من ضوئها شيئا ، وقد علمت أن الصواب القول الأول ، وقد قدمنا أن الفجوة : المتسع .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17تزاور عن كهفهم ، فيه ثلاث قراءات سبعيات :
قرأه
ابن عامر الشامي " تزور " بإسكان الزاي وإسقاط الألف وتشديد الراء ، على وزن تحمر ، وهو على هذه القراءة من الازورار بمعنى الميل ; كقول
عنترة المتقدم :
فازور من وقع القنا . . . . . . . . . . .
البيت
وقرأه
الكوفيون وهم
عاصم وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف ، وعلى هذه القراءة فأصله " تتزاور " فحذفت منه إحدى التاءين ، على حد قوله في الخلاصة :
وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر
وقرأه
نافع المدني nindex.php?page=showalam&ids=16456وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري : " تزاور " بتشديد الزاي بعدها ألف ، وأصله " تتزاور " أدغمت فيه التاء في الزاي ، وعلى هاتين القراءتين ( أعني قراءة حذف إحدى التاءين ، وقراءة إدغامها في الزاي ) فهو من التزاور بمعنى الميل أيضا
[ ص: 222 ] وقد يأتي التفاعل بمعنى مجرد الفعل كما هنا ، وكقولهم : سافر وعاقب وعافى .
وعلى قول من قال : إن في
nindex.php?page=treesubj&link=32007الكهف حواجز طبيعية تمنع من دخول الشمس بحسب وضع الكهف ، فالإشارة في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذلك من آيات الله ، راجعة إلى ما ذكر من حديثهم ، أي ذلك المذكور من هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان ، وإيوائهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم - من آيات الله . وأصل الآية عند المحققين " أيية " بثلاث فتحات ، أبدلت فيه الياء الأولى ألفا ، والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير ; لأن التغير عادة أكثر في الأواخر ، كما في طوى ونوى ، ونحو ذلك . وهنا أعل الأول على خلاف الأغلب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وإن لحرفين ذا الاعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق
والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين ، وتطلق في القرآن العظيم إطلاقين أيضا ، أما إطلاقاها في اللغة فالأول منهما : أنها تطلق بمعنى العلامة ، وهو الإطلاق المشهور ، ومنه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=248إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الآية [ 2 \ 248 ] ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=16674عمر بن أبي ربيعة :
بآية ما قالت غداة لقيتها بمدفع أكنان أهذا المشهر
يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله :
ألكني إليها بالسلام فإنه يشهر إلمامي بها وينكر
وقد جاء في شعر
نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده :
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون : جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم ، ومنه قول
برج بن مسهر أو غيره :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا
فقوله : " بآياتنا " أي بجماعتنا .
[ ص: 223 ] وأما إطلاقها في القرآن فالأول منهما إطلاقها على الآية الكونية القدرية ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=190إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] ، أي علامات كونية قدرية ، يعرف بها أصحاب العقول السليمة أن خالقها هو الرب المعبود وحده جل وعلا ، والآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة لغة .
وأما إطلاقها الثاني في القرآن فهو إطلاقها على الآية الشرعية الدينية ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=11رسولا يتلو عليكم آيات الله الآية [ 65 \ 11 ] ونحوها من الآيات .
والآية الشرعية الدينية قيل : هي من الآية بمعنى العلامة لغة ، لأنها علامات على صدق من جاء بها ، أو أن فيها علامات على ابتدائها وانتهائها .
وقيل : من الآية ، بمعنى الجماعة ، لاشتمال الآية الشرعية الدينية على طائفة وجماعة من كلمات القرآن .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17nindex.php?page=treesubj&link=28989وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ .
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ : أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا ، وَيَكُونَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، وَذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً .
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَفِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَحَدِهِمَا وَعَدَمِ صِحَّةِ الْآخَرِ .
أَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ الْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى خِلَافِهِ ، فَهُوَ أَنَّ
أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنَ الْكَهْفِ ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّمْسِ حَوَاجِزُ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ نَفْسِ الْكَهْفِ ، تَقِيهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ الْقَرِينَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّتِهِ ، فَهُوَ أَنَّ
أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا فِي فَجْوَةٍ مِنَ الْكَهْفِ عَلَى سَمْتٍ تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَتُقَابِلُهُ ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ ، كَرَامَةً لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ، الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ طَاعَةً لِرَبِّهِمْ جَلَّ وَعَلَا .
وَالْقَرِينَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [ 18 \ 17 ] ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَأْلُوفًا ، وَلَيْسَ فِيهِ غَرَابَةٌ حَتَّى يُقَالَ فِيهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ الْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ ; فَمَعْنَى تَزَاوُرِ الشَّمْسِ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ عِنْدَ طُلُوعِهَا ، وَقَرْضِهَا إِيَّاهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ عِنْدَ غُرُوبِهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ يُقَلِّصُ ضَوْءَهَا عَنْهُمْ ، وَيُبْعِدُهُ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ عِنْدَ الطُّلُوعِ ، وَإِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ عِنْدَ الْغُرُوبِ ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفُوا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=32007كَيْفِيَّةِ وَضْعِ الْكَهْفِ ، وَجَزَمَ
[ ص: 219 ] ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَابَ الْكَهْفِ كَانَ مِنْ نَحْوِ الشِّمَالِ ، قَالَ : لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا دَخَلَتْهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَزَاوَرُ عَنْهُ ذَاتَ الْيَمِينِ ، أَيْ يَتَقَلَّصُ الْفَيْءُ يَمْنَةً . كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ nindex.php?page=showalam&ids=15992وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ : تَزَاوَرُ ، أَيْ تَمِيلُ ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ فِي الْأُفُقِ تَقَلَّصَ شُعَاعُهَا بِارْتِفَاعِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ [ 18 \ 17 ] ، أَيْ تَدْخُلُ إِلَى غَارِهِمْ مِنْ شِمَالِ بَابِهِ وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِمَعْرِفَةِ الْهَيْئَةِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَابُ الْغَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْغُرُوبِ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ ، وَلَا تَزَاوَرَ الْفَيْءُ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَلَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ لَمَا دَخَلَتْهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ ، بَلْ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَزَلْ فِيهِ إِلَى الْغُرُوبِ ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . انْتَهَى كَلَامُ
ابْنِ كَثِيرٍ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16785الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا إِنَّ بَابَ الْكَهْفِ كَانَ مَفْتُوحًا إِلَى جَانِبِ الشِّمَالِ ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانَتْ عَلَى يَمِينِ الْكَهْفِ ، وَإِذَا غَرَبَتْ كَانَتْ عَلَى شِمَالِهِ ، فَضَوْءُ الشَّمْسِ مَا كَانَ يَصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْكَهْفِ ، وَكَانَ الْهَوَاءُ الطَّيِّبُ وَالنَّسِيمُ الْمُوَافِقُ يَصِلُ إِلَيْهِ ، انْتَهَى كَلَامُ
الرَّازِيُّ . وَقَالَ
أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَعَ الشَّمْسِ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ حَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ ، وَحَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الدَّبُورِ وَهُمْ فِي زَاوِيَةٍ ، وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ : كَانَ بَابُ الْكَهْفِ يَنْظُرُ إِلَى بَنَاتِ نَعْشٍ ، وَعَلَى هَذَا كَانَ أَعْلَى الْكَهْفِ مَسْتُورًا مِنَ الْمَطَرِ .
قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : كَانَ كَهْفُهُمْ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ لَا تَدْخُلُهُ الشَّمْسُ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ ، اخْتَارَ اللَّهُ لَهُمْ مَضْجَعًا مُتَّسِعًا فِي مَقْنَأَةٍ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ فَتُؤْذِيهِمْ ، انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ
أَبِي حَيَّانَ . وَالْمَقْنَأَةُ : الْمَكَانُ الَّذِي لَا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِلْقَرِينَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
وَمِمَّنِ اعْتَمَدَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجُ ، وَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضَ الْمَيْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=16785الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا ، لِتَوْجِيهِهِمَا قَوْلَ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجِ الْمَذْكُورَ بِقَرِينَةِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ .
[ ص: 220 ] وَقَالَ
الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ : وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، فَإِنَّ صَرْفَ الشَّمْسِ عَنْهُمْ مَعَ تَوَجُّهِ الْفَجْوَةِ إِلَى مَكَانٍ تَصِلُ إِلَيْهِ عَادَةً ، أَنْسَبُ بِمَعْنَى كَوْنِهَا آيَةً ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا إِطْلَاقُ الْفَجْوَةِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهَا بِكَوْنِهَا إِلَى جِهَةِ كَذَا ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَجْوَةَ الْمَكَانُ الْوَاسِعُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
أَلْبَسْتَ قَوْمَكَ مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً حَتَّى أُبِيحُوا وَحَلُّوا فَجْوَةَ الدَّارِ
انْتَهَى كَلَامُ
الشَّوْكَانِيِّ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَجْوَةَ : هِيَ الْمُتَّسَعُ . وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ الْبَيْتُ الْمَذْكُورُ ، وَقَوْلُ الْآخَرِ :
وَنَحْنُ مَلَأْنَا كُلَّ وَادٍ وَفَجْوَةٍ رِجَالًا وَخَيْلًا غَيْرَ مِيلٍ وَلَا عُزْلِ
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008085 " فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ " .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ ، أَيْ تَرَى أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَمِيلُ عَلَى كَهْفِهِمْ ، وَالْمَعْنَى : أَنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَرَأَيْتَهُمْ كَذَلِكَ ، لَا أَنَّ الْمُخَاطَبَ رَآهُمْ بِالْفِعْلِ ، كَمَا يَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=18لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا الْآيَةَ [ 18 \ 18 ] ، وَالْخِطَابُ بِمِثْلِ هَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ، وَأَصْلُ مَادَّةِ التَّزَاوُرِ : الْمَيْلُ ، فَمَعْنَى " تَزَاوَرُ " : تَمِيلُ . وَالزُّورُ : الْمَيْلُ ، وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ ، لِأَنَّهَا مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ . وَمِنْهُ الزِّيَارَةُ ; لِأَنَّ الزَّائِرَ يَمِيلُ إِلَى الْمَزُورِ ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ
عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ :
فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعَ الْقَنَا بِلَبَانِهِ وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ
وَقَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=16674عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ :
وَخُفِّضَ عَنِّي الصَّوْتُ أَقْبَلْتُ مِشْيَةَ الْ حُبَابِ وَشَخْصِي خَشْيَةَ الْحَيِّ أَزْوَرُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذَاتَ الْيَمِينِ أَيْ جِهَةَ الْيَمِينِ ، وَحَقِيقَتُهَا الْجِهَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْيَمِينِ . وَقَالَ
أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ : وَذَاتُ الْيَمِينِ : جِهَةُ يَمِينِ الْكَهْفِ ، وَحَقِيقَتُهَا الْجِهَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْيَمِينِ ، يَعْنِي يَمِينَ الدَّاخِلِ إِلَى الْكَهْفِ ، أَوْ يَمِينَ الْفِتْيَةِ . اهـ ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ .
nindex.php?page=treesubj&link=32007_28989وَقَوْلُهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ، مِنَ الْقَرْضِ بِمَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَالصَّرْمِ ; أَيْ
[ ص: 221 ] تَقْطَعُهُمْ وَتَتَجَافَى عَنْهُمْ وَلَا تَقْرَبُهُمْ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ
غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ :
نَظَرْتُ بِجَرْعَاءِ السَّبِيَّةِ نَظْرَةً ضُحًى وَسَوَادُ الْعَيْنِ فِي الْمَاءِ شَامِسُ
إِلَى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ
فَقَوْلُهُ : " يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ " ، أَيْ يَقْطَعْنَهَا وَيُبْعِدْنَهَا نَاحِيَةَ الشِّمَالِ ، وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ أَوْ رِمَالُ الدَّهْنَاءِ ، وَالْأَقْوَازُ : جَمْعُ قَوْزٍ - بِالْفَتْحِ - وَهُوَ الْعَالِي مِنَ الرَّمْلِ كَأَنَّهُ جَبَلٌ ، وَيُرْوَى " أَجْوَازَ مُشْرِفٍ " جَمْعُ جَوْزٍ ، مِنَ الْمَجَازِ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : تَقْرِضُهُمْ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى تَقْرِضُهُمْ : تُقْطِعُهُمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا ثُمَّ يَزُولُ سَرِيعًا كَالْقَرْضِ يُسْتَرَدُّ ، وَمُرَادُ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ عَنْهُمْ بِالْغَدَاةِ ، وَتُصِيبُهُمْ بِالْعَشِيِّ إِصَابَةً خَفِيفَةً ، بِقَدْرِ مَا يَطِيبُ لَهُمْ هَوَاءُ الْمَكَانِ وَلَا يَتَعَفَّنُ .
قَالَ
أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ : وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقَرْضِ الَّذِي يُعْطَى ثُمَّ يُسْتَرَدُّ لَكَانَ الْفِعْلُ رُبَاعِيًّا ، فَتَكُونُ التَّاءُ فِي قَوْلِهِ : " تَقْرِضُهُمْ " مَضْمُومَةً ، لَكِنْ دَلَّ فَتْحُ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ " تَقْرِضُهُمْ " عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقَرْضِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ ، أَيْ تَقْطَعُ لَهُمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّوَابَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْفَجْوَةَ : الْمُتَّسَعُ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ، فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ :
قَرَأَهُ
ابْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ " تَزْوَرُّ " بِإِسْكَانِ الزَّايِ وَإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ، عَلَى وَزْنِ تَحْمَرُّ ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الِازْوِرَارِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ ; كَقَوْلِ
عَنْتَرَةَ الْمُتَقَدِّمِ :
فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الْقَنَا . . . . . . . . . . .
الْبَيْتَ
وَقَرَأَهُ
الْكُوفِيُّونَ وَهُمْ
عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ بِالزَّايِ الْمُخَفَّفَةِ بَعْدَهَا أَلِفٌ ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَأَصْلُهُ " تَتَزَاوَرُ " فَحُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ :
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتَدَى قَدْ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنَ الْعِبَرُ
وَقَرَأَهُ
نَافِعٌ الْمَدَنِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=16456وَابْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ : " تَزَّاوَرُ " بِتَشْدِيدِ الزَّايِ بَعْدَهَا أَلِفٌ ، وَأَصْلُهُ " تَتَزَاوَرُ " أُدْغِمَتْ فِيهِ التَّاءُ فِي الزَّايِ ، وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ ( أَعْنِي قِرَاءَةَ حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ ، وَقِرَاءَةَ إِدْغَامِهَا فِي الزَّايِ ) فَهُوَ مِنَ التَّزَاوُرِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ أَيْضًا
[ ص: 222 ] وَقَدْ يَأْتِي التَّفَاعُلُ بِمَعْنَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ كَمَا هُنَا ، وَكَقَوْلِهِمْ : سَافَرَ وَعَاقَبَ وَعَافَى .
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=32007الْكَهْفِ حَوَاجِزَ طَبِيعِيَّةً تَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الشَّمْسِ بِحَسَبِ وَضْعِ الْكَهْفِ ، فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِهِمْ ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ هِدَايَتِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بَيْنِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَإِيوَائِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْكَهْفِ ، وَحِمَايَتِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ إِلَى آخَرِ حَدِيثِهِمْ - مِنْ آيَاتِ اللَّهِ . وَأَصْلُ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ " أَيَيَةٍ " بِثَلَاثِ فَتَحَاتٍ ، أُبْدِلَتْ فِيهِ الْيَاءُ الْأُولَى أَلِفًا ، وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُوجِبَا إِعْلَالٍ كَانَ الْإِعْلَالُ فِي الْأَخِيرِ ; لِأَنَّ التَّغَيُّرَ عَادَةً أَكْثَرُ فِي الْأَوَاخِرِ ، كَمَا فِي طَوَى وَنَوَى ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهُنَا أُعِلَّ الْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِ الْأَغْلَبِ ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ :
وَإِنْ لِحَرْفَيْنِ ذَا الِاعْلَالُ اسْتُحِقْ صُحِّحَ أَوَّلٌ وَعَكْسٌ قَدْ يَحِقْ
وَالْآيَةُ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقَيْنِ ، وَتُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقَيْنِ أَيْضًا ، أَمَّا إِطْلَاقَاهَا فِي اللُّغَةِ فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا : أَنَّهَا تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=248إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الْآيَةَ [ 2 \ 248 ] ، وَقَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=16674عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ :
بِآيَةِ مَا قَالَتْ غَدَاةَ لَقِيتُهَا بِمِدْفَعِ أَكْنَانٍ أَهَذَا الْمُشَهَّرُ
يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهَا ذَلِكَ هُوَ الْعَلَامَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِهِ إِلَيْهَا الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ :
أَلِكْنِي إِلَيْهَا بِالسَّلَامِ فَإِنَّهُ يُشَهَّرُ إِلْمَامِي بِهَا وَيُنَكَّرُ
وَقَدْ جَاءَ فِي شِعْرِ
نَابِغَةِ ذُبْيَانَ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِالْعَلَامَةِ فِي قَوْلِهِ :
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْآيَاتِ عَلَامَاتُ الدَّارِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ :
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا : فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ ، يَقُولُونَ : جَاءَ الْقَوْمُ بِآيَتِهِمْ ، أَيْ بِجَمَاعَتِهِمْ ، وَمِنْهُ قَوْلُ
بُرْجِ بْنِ مُسْهِرٍ أَوْ غَيْرِهِ :
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلَنَا بِآيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا
فَقَوْلُهُ : " بِآيَاتِنَا " أَيْ بِجَمَاعَتِنَا .
[ ص: 223 ] وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا فِي الْقُرْآنِ فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا إِطْلَاقُهَا عَلَى الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=190إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ 3 \ 190 ] ، أَيْ عَلَامَاتٍ كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً ، يَعْرِفُ بِهَا أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا ، وَالْآيَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ لُغَةً .
وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا الثَّانِي فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْآيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=11رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ الْآيَةَ [ 65 \ 11 ] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ .
وَالْآيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ قِيلَ : هِيَ مِنَ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ لُغَةً ، لِأَنَّهَا عَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا ، أَوْ أَنَّ فِيهَا عَلَامَاتٍ عَلَى ابْتِدَائِهَا وَانْتِهَائِهَا .
وَقِيلَ : مِنَ الْآيَةِ ، بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ ، لِاشْتِمَالِ الْآيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى طَائِفَةٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ .