( وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ) الظاهر المختار أن هذا عطف على ما قبله ، أي لله ما في السماوات وما في الأرض ، وله ما سكن في الليل والنهار ، واستظهر أبو حيان أنه استئناف إخبار غير مندرج تحت السؤال والجواب . وسكن من سكنى أو من السكون ضد الحركة ، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله ، أي له ما سكن وما تحرك ، على حد قوله : ( سرابيل تقيكم الحر ) ( 16 : 81 ) أي والبرد . ويجوز الجمع بين المعنيين على مذهب من يجوز ذلك في المشترك بما يحتمله المقام ، والحكمة في ذكر هذا الملك الخاص على دخوله في عموم ما في السماوات والأرض التذكير بتصرفه تعالى بهذه الخفايا ، فإن السكنى والسكون من دواعي خفاء الساكن ، فإذا كان في الليل كان أشد خفاء; ولذلك قدم ذكر الليل لأن ما يسكن فيه هو المقصود بالذات ، وعطف النهار عليه تكميل ، ولما ذكرنا تعالى بأنه المالك لما ذكر ، المتصرف فيه بقدرته بما يشاء كما هو شأن الربوبية الكاملة ذكرنا بأنه هو السميع العليم ، أي المحيط سمعه بكل ما من شأنه أن يسمع مهما يكن خفيا عن غيره ، فهو يسمع دبيب النملة في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها ، كما قال أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه : وهو المحيط علمه بكل شيء ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) ( 40 : 19 ) وإذا كان كذلك فلا يمكن أن تدق عن سمعه دعوة داع أو تعزب عن علمه حاجة محتاج ، حتى يخبره بها الأولياء ، أو يقنعه بها الشفعاء ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) ( 2 : 255 ) .
بعد كتابة ما تقدم راجعت التفسير الكبير فإذا فيه من نكت البلاغة في الآية ما نقله [ ص: 276 ] الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني وقال إنه أحسن ما قيل في نظمها وهو : ذكر في الآية الأولى السماوات والأرض إذ لا مكان سواهما ، وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار إذ لا زمان سواهما ، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات . فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات ، والزمان والزمانيات . قال الرازي : وهذا بيان في غاية الجلالة . وأقول : ههنا دقيقة أخرى ، وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات ، ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات ، وذلك لأن المكان والمكانيات ، أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات ، لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة . والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى اهـ .
بعد هذا القول الذي أمر الله به رسوله للتذكير بأنه الرب المالك لكل شيء ، المتصرف بالفعل والتدبير في كل شيء حتى دقائق الأشياء والأمور وخفاياها ، وأن تصرفه هذا عن علم محيط لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب نملة . أمره بقول آخر بين فيه ما يستلزمه ما قبله من وجوب ولايته تعالى وحده والتوجه إليه دون سواه في كل ما هو فوق كسب البشر ، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم ، ولا يتم به المراد بمحض سعيهم ، فقال :