ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة تحري الحقائق بأوجز العبارات وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفة بعضها في بادي الرأي لما هو الأصل في التعبير كالمقابلة هنا بين الضر والخير ، وإنما مقابل الضر النفع ، ومقابل الخير الشر ، فنكتة المقابلة أن الضر من الله تعالى ليس شرا في الحقيقة ، بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وآدابا وعلما وخبرة ، وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله ، كما أن صرف العذاب في الآخرة مقدم على النعيم فيها ، وهذه الآية مقابلة لما قبلها كما تقدم . ثم ذكر الخير في [ ص: 280 ] مقابل الضر دون النفع فأفاد أن ما ينفع الناس من النعم إنما يحسن إذا كان ذلك النفع خيرا لهم بعدم ترتيب شيء من الشر عليه ، فكأنه قال : إن أصابك أيها الإنسان ضر كمرض وتعب وحاجة وحزن وذل اقتضته سنة الله تعالى فلا كاشف له ، أي لا مزيل له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو دون الأولياء يتخذون من دونه ويتوجه إليهم المشرك لكشفه ، فهو إما أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب التي تزيله ، وإما أن يكشفه بغير عمل منك ولا كسب ، ولطفه الخفي لا حد له فله الحمد ، وإن يمسسك بخير ، كصحة وغنى وقوة وجاه فهو قادر على حفظه عليك كما أنه قادر على إعطائك إياه; لأنه على كل شيء قدير ، وأما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسك بخير ولا ضر . فالآية كما قال الرازي دليل آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله وليا . وقد تبين بها وبما قبلها أن كل ما يحتاج إليه المرء في الدنيا والآخرة من كشف ضر وصرف عذاب أو إيجاد خير ومنح ثواب فإنما يطلب من الله تعالى وحده ، والطلب من الله تعالى نوعان : طلب بالعمل ومراعاة الأسباب التي تقتضيها سننه تعالى في خلقه ، وطلب بالتوجه والدعاء اللذين ندبت إليهما آياته تعالى في كتابه وأحكامه الشرعية .
هذا ما فتح الله به ، وبعد كتابته راجعنا كتاب روح المعاني فوجدنا فيه نقلا في نكتة البلاغة في أحببنا نقلها إتماما للفائدة قال : المقابلة بين الضر والخير
" وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في الجسم وبالفتح بضد النفع وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر على ما في البحر لأن الشر أعم ، فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة . وقال ابن عطية : إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابلة الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الصنعة وطرح رداء التكلف ، وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام ، كقوله تعالى : ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ( 20 : 118 ، 119 ) فجيء بالجوع مع العري ، وبالظمأ مع الصحو ، وكان الظاهر خلافه ، ومنه قول امرئ القيس :
كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال .
ولم أسبأ الزق الروي ولم
أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
وإيضاحه : أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر ، والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر ، وكذلك قرن امرؤ القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب; لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال [ ص: 281 ] في شراء الراح ، ببذل الأنفس في الكفاح; لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر ، وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب ، فإن انتقام العظيم عظيم ، ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه ، والآية من قبيل اللف والنشر ، فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى : ( إني أخاف ) إلخ . ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه : ( من يصرف عنه ) إلخ .