(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39nindex.php?page=treesubj&link=28977والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ) أي والكفار الذين كذبوا بآياتنا المنزلة وما أرشدنا إليه من آياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق ما جاء به رسولنا تكذيب جحود واستكبار ، أو تكذيب جمود على تقليد الآباء وطاعة الكبراء صم لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع فهم وقبول ، وبكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق ، ولا يقرون بما يدعوهم إليه الرسول ، متسكعون أو حال كونهم متسكعين خابطين في تلك الظلمات الحالكة ظلمة الشرك والوثنية ، وظلمة تقاليد الجاهلية ، وظلمة كبرياء العصبية ، وظلمة الجهل والأمية ، ظلمات بعضها فوق بعض ، لا ينفذ منها إليهم من نور الهداية شيء ، فهم لا يبصرون صراطها ، ولا يرون منهاجها ، وذلك ما جنوه على أنفسهم بسوء اختيار الأفراد وفساد تربية المجموع ، ولكل سيرة غاية تنتهي إليها بحسب سنن الله التي قضت بها حكمته ، ونفذت بها مشيئته .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39nindex.php?page=treesubj&link=28977من يشأ الله يضلله ) أي من تعلقت مشيئة الله بإضلاله يضلله كما أضل هؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى ، فلم يستعملوا أسماعهم ولا أفواههم ولا عقولهم في آيات الله تعالى الدالة على حقية ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما إضلاله إياهم اقتضاء سننه في عقول البشر وغرائزهم وأخلاقهم أن يعرض المستكبر عن دعوة من يراه دونه ، واتباع من يراه مثله ، وإن ظهر له أن الحق معه ، وأن يعرض المقلد عن النظر في الآيات والدلائل التي تنصب لبيان بطلان تقاليده وإثبات خلافها ، ما دام مغرورا بها مكبرا لمن جرى من الآباء والكبراء عليها ، وليس معنى ذلك أن يخلق الله تعالى الضلال لمن شاء إضلاله خلقا ويجعله له غريزة وطبعا ، ولا أن يلجئه إليه إلجاء ، ويكرهه عليه إكراها ، فيكون إعراضه عن الحق والخير وإقباله على الباطل والشر كحركة الدم في الجسد ، وعمل المعدة في الهضم (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39nindex.php?page=treesubj&link=28977ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) أي ومن يشأ هدايته واستقامته يجعله على طريق مستقيم ، وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه ، ولا ينجو تاركه ، بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله في آيات الله المنزلة وآياته المكونة ، استعمالا يعرف به الحق ويعترف
[ ص: 337 ] به ، ويعرف به الخير ويعمل به بحسب سننه سبحانه وتعالى في الارتباط بين الأعمال البدنية والعقائد والوجدانات النفسية ، وليس معناه أن يخلق له الهداية خلقا كما خلق روحه وبدنه ، ولا أنه يجبره عليها فيلصق به كارها غير مختار ، وفي القرآن آيات كثيرة تدل على أن مشيئة الإضلال إنما تتعلق بأصحاب الأعمال الكسبية التي هي الضلال أو سبب الضلال ، ومشيئة الهداية تتعلق بما يقابل ذلك .
قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=179ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون 7 : 179 ) وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=27ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء 14 : 27 ) وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26وما يضل به إلا الفاسقين 2 : 26 ) كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور 5 : 16 ) فالجمع بين الآيات هو الموافق لفطر البشر وعقولهم وإن خالف بعض نظريات
المعتزلة والجبرية والأشعرية ، فليس الإنسان خالقا لأفعال نفسه ، مستقلا بها دون مشيئة خالقه وسننه في خلقه ، ولم يجعل الرب ما يصدر عن الناس من الإيمان والكفر والخير والشر من قبيل ما خلقه لهم من حركات دمائهم في أبدانهم وأعمال معدهم وأمعائهم ، ولا من قبيل حركات المرتعش منهم ، فلا نغلو في التنزيه والحكمة الإلهية غلوا نجعل به ضلال من ضل واقعا بغير مشيئة الله تعالى مقدر المقادير ، وواضع السنن الحكيمة في الخلق كله ، ولا نغلو في المشيئة فنجعلها منافية للحكمة والرحمة سالبة لما علم من فطرة الله بالضرورة .
وقد زعم بعض
المعتزلة أن الآية في بيان ما يكون عليه الكافرون والمؤمنون في الآخرة ، كما قال في آية أخرى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=97ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما 17 : 97 ) قال : وإن المراد بالإضلال إضلالهم عن طريق الجنة جزاء لهم ، ويقابله جعل المتقين على صراط موصل إلى الجنة ، ويرد هذا التأويل ورود الآية في وصف حال المكذبين بآيات الله في سياق إقامة الحجج عليهم ، وليس فيها ذكر للآخرة ولا هي واردة في سياق الجزاء ، وإسناد الإضلال إلى الله تعالى لا يقتضي إخراجها عن ظاهرها ، فمثله في القرآن كثير .
ومن نكت البلاغة في الآية أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39صم وبكم في الظلمات ) في معنى قوله تعالى في " سورة البقرة " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=18صم بكم عمي 2 : 18 ، 171 ) فلماذا سردت الصفات الثلاث
[ ص: 338 ] في البقرة مفصولة ووصلت كلها بالعطف في آية الإسراء ( 17 : 97 ) التي ذكرت آنفا ، وعطف الثانية على الأولى هنا دون قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122في الظلمات ) الذي هو في معنى الثالثة ؟ لم أر لأحد كلاما في الفرق بين هذه الآيات ، ولكن ذكر في " روح المعاني " أن العطف بين الصم والبكم لتلازمهما ، وتركه فيما بعدهما للإيماء إلى أنه كاف للإعراض عن الحق ، والذي يظهر لنا في المقابلة أن ترك العطف في آيتي البقرة لبيان أن هذه الصفات لاصقة بالموصوفين بها مجتمعة في آن واحد ، والأولى منهما في المختوم على قلوبهم الميئوس من إيمانهم من المنافقين وغيرهم ، والثانية في المقلدين الجامدين ، وكل منهما لا يستمع لدعوة الحق عند تلاوة القرآن وغيره ولا يسأل الرسول ولا غيره من المؤمنين عما يحوك في قلبه ويجول في ذهنه من الكفر والشك ، ولا ينطق بما عساه يعرف من الحق ، ولا يستدل بآيات الله المرئية في نفسه ولا في الآفاق ، فكأنه أصم أبكم أعمى في آن واحد ، وأما الآية التي نفسرها فهي في مشركي
مكة ، ولم يكونوا كلهم من المختوم على قلوبهم الميئوس من إيمانهم ، ولا من المقلدين الجامدين الذين لا ينظرون في شيء من الآيات الإلهية المنزلة والمكونة ، بل كان منهم الجامد على التقليد والإعراض عن سماع القرآن حتى كأنه أصم (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=7وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا 31 : 7 ) ومنهم من يسمع ويعلم أنها الحق ، ولكنه لا ينطق بما يعلم عنادا ، فهذان فريقان منفصلان ، عطف أحدهما على الآخر لبيان هذا الانفصال . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39في الظلمات ) إما حال منهما لبيان أن كلا منهما خابط في الظلمات المشتركة كظلمتي الشرك والجهل ، أو الخاصة بفريق دون آخر كظلمتي التقليد والكبر ، فبعض المقلدين غير مستكبرين وهم الفقراء ، وبعض المستكبرين غير جامدين على تقليد الآباء ، وإما صفة لبكم فيكون المكذبون المحكي عنهم قسمين كل منهما فريقان ( الأول ) الذين شبهوا بالصم ، وهم الذين لا يسمعون القرآن مطلقا استغناء عن هدايته بضلالهم ومشاغبة للداعي إليه (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=26وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون 41 : 26 ) والذين لا يسمعون سماع فهم وتأمل ، لتوهمهم عدم الحاجة إلى دين غير دين آبائهم ، أو لأن رؤساءهم ينهونهم ويصدونهم عنه ، ولم يوصف هؤلاء بأنهم في الظلمات - على هذا الوجه - لأن سماعهم مرجو وهدايتهم مأمولة عند زوال المانع . ( الثاني ) الذين شبهوا بالبكم وهم الذين عرفوا الحق واستيقنوا صدق الرسول بالآيات والدلائل ، ولكنهم يكتمونها أو يجحدون بها كبرا وعنادا لا تكذيبا له ولا إكذابا ، كما تقدم قريبا
[ ص: 339 ] في الآية ( 39 ) ، والذين لم يعرفوا الحق ولم يسألوا ولم يبحثوا فهم كالبكم لعدم استفادتهم من الكلام . ووصف هذا الفريق من البكم - وهم الجاهلون - بأنهم في الظلمات لأنهم لا ينظرون في دلالة الآيات المرئية ، ووصف بذلك الفريق الأول أيضا - وهم المستكبرون ؛ لأنهم لا تؤثر في قلوبهم رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفاته القدسية ، وقد كانت شمائله الشريفة المرضية وروحانيته التي هي أقوى من الكهربائية تؤثر في النفوس المستعدة فتجذبها إلى الإيمان من غير حاجة إلى إقامة حجة ولا تأليف برهان ، وقد كان يجيئه الأعرابي السليم الفطرة ممتحنا أو معاديا ، فإذا رآه آمن وقال : ما هذا وجه كذاب ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=919671ودخل عليه رجل فأخذته رعدة شديدة من مهابته ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - " هون عليك ؛ فإني لست بملك ولا جبار ، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة " فنطق الرجل بحاجته . رواه
الحاكم من حديث
جابر ، وقال صحيح على شرط الشيخين .
ومن الشواهد المؤيدة لما ذكرنا من التقسيم قوله تعالى في " سورة يونس " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=42ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=43ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون 10 : 42 ، 43 ) وأما آية الإسراء فلا يظهر فيها هذا التقسيم ولا معنى ما دلت عليه آيتا البقرة من إرادة اجتماع تلك الصفات الثلاث الحائلة دون جميع طرق الهداية ، وإنما تفيد أن هذه العلل تعرض لهم في حالات وأوقات مختلفة من يوم الحشر والجزاء ، فيكونون عميا هائمين في الظلمات على وجوههم (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=12يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم 57 : 12 ) فلا يرون الطريق الموصل إلى الجنة عندما يساق أهلها إليها ويكونون بكما (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=35هذا يوم لا ينطقون nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=36ولا يؤذن لهم فيعتذرون 77 : 35 ، 36 ) وذلك في بعض مواقف القيامة وأحوالها ، ، ويكونون صما لا يسمعون شيئا يسرهم عندما يسمع المؤمنون المتقون بشرى المغفرة من ربهم . ويؤيد هذا التفسير مجموع ما ورد في الآيات والروايات من بيان حال الكفار في الآخرة ، وروي نحوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه - فظهر الفرق بينه وبين آيتي البقرة المراد بها اجتماع الصمم والبكم والعمى في حال واحدة ووقت واحد ، كأنها صفة واحدة ، ولو حصل بعضها دون بعض لما أفادت أنهم لا يؤمنون .
وتأمل كيف بدأ بذكر الصم في سياق الكلام عن دعوة الإسلام وبيان إعراضهم عن قبولها ، وبدأ بذكر العمى في سياق الكلام عن الحشر ، فيا لله العجب من دقائق بلاغة هذا القرآن التي أعجزت البشر ، وكلما غاص غائص في بحارها استفاد شيئا جديدا من فوائد الدرر ، فلا تنفد عجائب إعجاز مبانيه ، ولا تنتهي عجائب إعجاز معانيه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39nindex.php?page=treesubj&link=28977وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ) أَيْ وَالْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ وَمَا أَرْشَدْنَا إِلَيْهِ مِنْ آيَاتِنَا الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا وَصِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُنَا تَكْذِيبَ جُحُودٍ وَاسْتِكْبَارٍ ، أَوْ تَكْذِيبَ جُمُودٍ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَطَاعَةِ الْكُبَرَاءِ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ دَعْوَةَ الْحَقِّ وَالْهُدَى سَمَاعَ فَهْمٍ وَقَبُولٍ ، وَبُكْمٌ لَا يَنْطِقُونَ بِمَا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ، وَلَا يُقِرُّونَ بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ ، مُتَسَكِّعُونَ أَوْ حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَسَكِّعِينَ خَابِطِينَ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ الْحَالِكَةِ ظُلْمَةِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ ، وَظُلْمَةِ تَقَالِيدِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَظُلْمَةِ كِبْرِيَاءِ الْعَصَبِيَّةِ ، وَظُلْمَةِ الْجَهْلِ وَالْأُمِّيَّةِ ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، لَا يَنْفُذُ مِنْهَا إِلَيْهِمْ مِنْ نُورِ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ ، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ صِرَاطَهَا ، وَلَا يَرَوْنَ مِنْهَاجَهَا ، وَذَلِكَ مَا جَنَوْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسُوءِ اخْتِيَارِ الْأَفْرَادِ وَفَسَادِ تَرْبِيَةِ الْمَجْمُوعِ ، وَلِكُلِّ سِيرَةٍ غَايَةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا بِحَسَبِ سُنَنِ اللَّهِ الَّتِي قَضَتْ بِهَا حِكْمَتُهُ ، وَنَفَذَتْ بِهَا مَشِيئَتُهُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39nindex.php?page=treesubj&link=28977مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ) أَيْ مَنْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ بِإِضْلَالِهِ يُضْلِلْهُ كَمَا أَضَلَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ، فَلَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَسْمَاعَهُمْ وَلَا أَفْوَاهَهُمْ وَلَا عُقُولَهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى حَقِّيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا إِضْلَالُهُ إِيَّاهُمُ اقْتِضَاءَ سُنَنِهِ فِي عُقُولِ الْبَشَرِ وَغَرَائِزِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ أَنْ يُعْرِضَ الْمُسْتَكْبِرَ عَنْ دَعْوَةِ مَنْ يَرَاهُ دُونَهُ ، وَاتِّبَاعِ مَنْ يَرَاهُ مِثْلَهُ ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ ، وَأَنْ يُعْرِضَ الْمُقَلِّدُ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تَنْصَبُّ لِبَيَانِ بُطْلَانِ تَقَالِيدِهِ وَإِثْبَاتِ خِلَافِهَا ، مَا دَامَ مَغْرُورًا بِهَا مُكَبِّرًا لِمَنْ جَرَى مِنَ الْآبَاءِ وَالْكُبَرَاءِ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الضَّلَالَ لِمَنْ شَاءَ إِضْلَالَهُ خَلْقًا وَيَجْعَلُهُ لَهُ غَرِيزَةً وَطَبْعًا ، وَلَا أَنْ يُلْجِئَهُ إِلَيْهِ إِلْجَاءً ، وَيُكْرِهَهُ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا ، فَيَكُونُ إِعْرَاضُهُ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ كَحَرَكَةِ الدَّمِ فِي الْجَسَدِ ، وَعَمَلِ الْمَعِدَةِ فِي الْهَضْمِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39nindex.php?page=treesubj&link=28977وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أَيْ وَمَنْ يَشَأْ هِدَايَتَهُ وَاسْتِقَامَتَهُ يَجْعَلْهُ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ ، وَلَا يَنْجُو تَارِكُهُ ، بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِاسْتِعْمَالِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَقْلِهِ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَآيَاتِهِ الْمُكَوِّنَةِ ، اسْتِعْمَالًا يَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ وَيَعْتَرِفُ
[ ص: 337 ] بِهِ ، وَيَعْرِفُ بِهِ الْخَيْرَ وَيَعْمَلُ بِهِ بِحَسَبِ سُنَنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ وَالْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَخْلُقَ لَهُ الْهِدَايَةَ خَلْقًا كَمَا خَلَقَ رُوحَهُ وَبَدَنَهُ ، وَلَا أَنَّهُ يُجْبِرُهُ عَلَيْهَا فَيُلْصِقُ بِهِ كَارِهًا غَيْرَ مُخْتَارٍ ، وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْإِضْلَالِ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَصْحَابِ الْأَعْمَالِ الْكَسْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ الضَّلَالُ أَوْ سَبَبُ الضَّلَالِ ، وَمَشِيئَةُ الْهِدَايَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ .
قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=179وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَعْقِلُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ 7 : 179 ) وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=27وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ 14 : 27 ) وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ 2 : 26 ) كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ 5 : 16 ) فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِفِطَرِ الْبَشَرِ وَعُقُولِهِمْ وَإِنْ خَالَفَ بَعْضَ نَظَرِيَّاتِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ ، فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ ، مُسْتَقِلًّا بِهَا دُونَ مَشِيئَةِ خَالِقِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ ، وَلَمْ يَجْعَلِ الرَّبُّ مَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قَبِيلِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنْ حَرَكَاتِ دِمَائِهِمْ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَعْمَالِ مَعِدِهِمْ وَأَمْعَائِهِمْ ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ حَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ مِنْهُمْ ، فَلَا نَغْلُو فِي التَّنْزِيهِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ غُلُوًّا نَجْعَلُ بِهِ ضَلَالَ مَنْ ضَلَّ وَاقَعًا بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُقَدِّرِ الْمَقَادِيرِ ، وَوَاضِعِ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِ ، وَلَا نَغْلُو فِي الْمَشِيئَةِ فَنَجْعَلَهَا مُنَافِيَةً لِلْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ سَالِبَةً لِمَا عُلِمَ مِنْ فِطْرَةِ اللَّهِ بِالضَّرُورَةِ .
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ
الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=97وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا 17 : 97 ) قَالَ : وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضْلَالِ إِضْلَالُهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ جَزَاءً لَهُمْ ، وَيُقَابِلُهُ جَعْلُ الْمُتَّقِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُوصِّلٍ إِلَى الْجَنَّةِ ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ وُرُودُ الْآيَةِ فِي وَصْفِ حَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِلْآخِرَةِ وَلَا هِيَ وَارِدَةٌ فِي سِيَاقِ الْجَزَاءِ ، وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا ، فَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ .
وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ) فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=18صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ 2 : 18 ، 171 ) فَلِمَاذَا سُرِدَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ
[ ص: 338 ] فِي الْبَقَرَةِ مَفْصُولَةً وَوُصِلَتْ كُلُّهَا بِالْعَطْفِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ ( 17 : 97 ) الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا ، وَعَطْفُ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى هُنَا دُونَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122فِي الظُّلُمَاتِ ) الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الثَّالِثَةِ ؟ لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ كَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي " رُوحِ الْمَعَانِي " أَنَّ الْعَطْفَ بَيْنَ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ لِتَلَازُمِهِمَا ، وَتَرْكَهُ فِيمَا بَعْدَهُمَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ كَافٍ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي الْمُقَابَلَةِ أَنَّ تَرْكَ الْعَطْفِ فِي آيَتَيِ الْبَقَرَةِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَاصِقَةٌ بِالْمَوْصُوفِينَ بِهَا مُجْتَمِعَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ ، وَالْأُولَى مِنْهُمَا فِي الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُقَلِّدِينِ الْجَامِدِينِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَسْتَمِعُ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَسْأَلُ الرَّسُولَ وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يَحُوكُ فِي قَلْبِهِ وَيَجُولُ فِي ذِهْنِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشَّكِّ ، وَلَا يَنْطِقُ بِمَا عَسَاهُ يَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ ، وَلَا يَسْتَدِلُّ بِآيَاتِ اللَّهِ الْمَرْئِيَّةِ فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي الْآفَاقِ ، فَكَأَنَّهُ أَصَمُّ أَبْكَمُ أَعْمَى فِي آنٍ وَاحِدٍ ، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فَهِيَ فِي مُشْرِكِي
مَكَّةَ ، وَلَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَيْئُوسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ ، وَلَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْمُكَوَّنَةِ ، بَلْ كَانَ مِنْهُمُ الْجَامِدُ عَلَى التَّقْلِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ حَتَّى كَأَنَّهُ أَصَمُّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=7وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا 31 : 7 ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا الْحَقُّ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِمَا يَعْلَمُ عِنَادًا ، فَهَذَانِ فَرِيقَانِ مُنْفَصِلَانِ ، عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِبَيَانِ هَذَا الِانْفِصَالِ . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39فِي الظُّلُمَاتِ ) إِمَّا حَالٌ مِنْهُمَا لِبَيَانِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَابِطٌ فِي الظُّلُمَاتِ الْمُشْتَرِكَةِ كَظُلْمَتَيِ الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ ، أَوِ الْخَاصَّةِ بِفَرِيقٍ دُونَ آخَرَ كَظُلْمَتَيِ التَّقْلِيدِ وَالْكِبْرِ ، فَبَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ غَيْرُ مُسْتَكْبِرِينَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ ، وَبَعْضُ الْمُسْتَكْبِرِينَ غَيْرُ جَامِدَيْنِ عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ ، وَإِمَّا صِفَةٌ لِبُكْمٍ فَيَكُونُ الْمُكَذِّبُونَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ قِسْمَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا فَرِيقَانِ ( الْأَوَّلُ ) الَّذِينَ شُبِّهُوا بِالصُّمِّ ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ مُطْلَقًا اسْتِغْنَاءً عَنْ هِدَايَتِهِ بِضَلَالِهِمْ وَمُشَاغَبَةً لِلدَّاعِي إِلَيْهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=26وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغُوَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ 41 : 26 ) وَالَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَأَمُّلٍ ، لِتَوَهُّمِهِمْ عَدَمَ الْحَاجَةِ إِلَى دِينٍ غَيْرِ دِينِ آبَائِهِمْ ، أَوْ لِأَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ يَنْهَوْنَهُمْ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ ، وَلَمْ يُوصَفْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ - عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ مَرْجُوٌّ وَهِدَايَتَهُمْ مَأْمُولَةٌ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ . ( الثَّانِي ) الَّذِينَ شُبِّهُوا بِالْبُكْمِ وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاسْتَيْقَنُوا صِدْقَ الرَّسُولِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَهَا أَوْ يَجْحَدُونَ بِهَا كِبْرًا وَعِنَادًا لَا تَكْذِيبًا لَهُ وَلَا إِكْذَابًا ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا
[ ص: 339 ] فِي الْآيَةِ ( 39 ) ، وَالَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَسْأَلُوا وَلَمْ يَبْحَثُوا فَهُمْ كَالْبُكْمِ لِعَدَمِ اسْتِفَادَتِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ . وَوَصَفَ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الْبُكْمِ - وَهُمُ الْجَاهِلُونَ - بِأَنَّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِي دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةِ ، وَوَصَفَ بِذَلِكَ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ أَيْضًا - وَهُمُ الْمُسْتَكْبِرُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِهِمْ رُؤْيَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَاتُهُ الْقُدْسِيَّةُ ، وَقَدْ كَانَتْ شَمَائِلُهُ الشَّرِيفَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَرُوحَانِيَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنَ الْكَهْرَبَائِيَّةِ تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ فَتَجْذِبُهَا إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِقَامَةِ حَجَّةٍ وَلَا تَأْلِيفِ بُرْهَانٍ ، وَقَدْ كَانَ يَجِيئُهُ الْأَعْرَابِيُّ السَّلِيمُ الْفِطْرَةُ مُمْتَحِنًا أَوْ مُعَادِيًا ، فَإِذَا رَآهُ آمَنَ وَقَالَ : مَا هَذَا وَجْهُ كَذَّابٍ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=919671وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ مَهَابَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " هَوِّنْ عَلَيْكَ ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ وَلَا جَبَّارٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ بِمَكَّةَ " فَنَطَقَ الرَّجُلُ بِحَاجَتِهِ . رَوَاهُ
الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ
جَابِرٍ ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْمُؤَيِّدَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ يُونُسَ " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=42وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=43وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ 10 : 42 ، 43 ) وَأَمَّا آيَةُ الْإِسْرَاءِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهَا هَذَا التَّقْسِيمُ وَلَا مَعْنَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَا الْبَقَرَةِ مِنْ إِرَادَةِ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الْحَائِلَةِ دُونَ جَمِيعِ طُرُقِ الْهِدَايَةِ ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ تَعْرِضُ لَهُمْ فِي حَالَاتٍ وَأَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ ، فَيَكُونُونَ عُمْيًا هَائِمِينَ فِي الظُّلُمَاتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=12يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ 57 : 12 ) فَلَا يَرَوْنَ الطَّرِيقَ الْمُوصِّلَ إِلَى الْجَنَّةِ عِنْدَمَا يُسَاقُ أَهْلُهَا إِلَيْهَا وَيَكُونُونَ بُكْمًا (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=35هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=36وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ 77 : 35 ، 36 ) وَذَلِكَ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِهَا ، ، وَيَكُونُونَ صُمًّا لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ عِنْدَمَا يَسْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ بُشْرَى الْمَغْفِرَةِ مِنْ رَبِّهِمْ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ مَجْمُوعُ مَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ وَالرِّوَايَاتِ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ الْمُرَادُ بِهَا اجْتِمَاعُ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَوَقْتٍ وَاحِدٍ ، كَأَنَّهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ حَصَلَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ لَمَا أَفَادَتْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ .
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ بَدَأَ بِذِكْرِ الصُّمِّ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَبَيَانِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِهَا ، وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْعَمَى فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْحَشْرِ ، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْبَشَرَ ، وَكُلَّمَا غَاصَ غَائِصٌ فِي بِحَارِهَا اسْتَفَادَ شَيْئًا جَدِيدًا مِنْ فَوَائِدِ الدُّرَرِ ، فَلَا تَنْفَدُ عَجَائِبُ إِعْجَازِ مَبَانِيهِ ، وَلَا تَنْتَهِي عَجَائِبُ إِعْجَازِ مَعَانِيهِ .