( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) روى أحمد ، ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم وغيرهم ، عن والطبراني قال : مر الملأ من عبد الله بن مسعود قريش على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وعمار وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فأنزل فيهم القرآن ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ) إلى قوله : ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) وقيل : إلى قوله : ( سبيل المجرمين ) ( 55 ) وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عن عكرمة قال : مشى عتبة بن ربيعة ، وشبية بن ربيعة ، وقرظة بن عمرو بن نوفل ، في أشراف الكفار من والحارث بن عامر بن نوفل بني عبد مناف إلى أبي طالب ، فقالوا له : لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد ، فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا - كان له أعظم في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه . فذكر ذلك أبو طالب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم وما يصيرون إليه من أمرهم . فأنزل الله ( عمر بن الخطاب وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ) إلى قوله : ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) قال : وكانوا بلالا ، ، وعمار بن ياسر ، وسالما مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى أسيد ، ومن الحلفاء : ، ابن مسعود ، والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي ، وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد ، وأشباههم ، ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا ) الآية ، فلما نزلت أقبل فاعتذر ، فأنزل الله : ( عمر بن الخطاب وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ) ( 54 ) الآية . هذا أقوى ما أورد [ ص: 363 ] السيوطي في الدر المنثور ، واختصر الروايتين في لباب النقول ، ولا ينافي هذا نزول السورة دفعة واحدة ، وكون هذه الآيات ليست مما استثناه بعضهم وبيناه في الكلام عليها قبل الشروع في تفسيرها ; لأن قولهم إن كذا نزل في كذا يصدق بنزوله وحده وبنزوله في ضمن سورة كاملة أو سياق من سورة ، لكن ظاهر ما زاده عكرمة من نزول ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ) في عمر يدل على أن نزولها كان بعد اعتذاره ، وأن اعتذاره كان بعد نزول ما قبلها . ويعارض هذا الظاهر ما ورد في نزولها دفعة واحدة ، وكون هذه الآية ليست مما استثني ، وهو أثبت من هذه الرواية ، وما ورد في سبب نزول الآية أيضا وسيأتي قريبا ، وحينئذ يقال : إما أن الزيادة غير مقبولة ، وإما أن ظاهر العبارة غير مراد ، وإنما لم نرد الرواية من أصلها مع أن في سندها من المقال ما فيه ؛ لأن نزول الآيات الأولى في ضعفاء الصحابة هو الواقع الذي لا مندوحة عنه ، والروايات فيه مبنية للواقع ، يؤيد فيه بعضها بعضا ، فلا يضر في مثله ضعف الراوي ببدعة أو بتدليس أو تحديث بعد اختلاط أو نحو ذلك من العلل التي في رجال هذه الرواية .
أما كون هذا هو الواقع فمعلوم من السيرة النبوية ومن سنة الله تعالى في خلقه المبينة في آيات كثيرة من كتابه ، وهو أن أول أتباع خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - كأتباع من تقدمه من إخوانه الرسل - صلى الله عليهم وسلم - أكثرهم من الضعفاء الفقراء ، وأن أعداءه كأعدائهم هم المترفون من الأكابر والرؤساء ، وأن هؤلاء الأعداء المستكبرين عن الإيمان كانوا يحتقرون السابقين إلى الإيمان ويذمونهم ويعدون أنفسهم معذورين أو محقين بعدم رضائهم لأنفسهم بمساواتهم ، وتارة يقترحون على الرسل طردهم وإبعادهم ، قال الله تعالى في " سورة سبأ " : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) ( 34 : 34 ، 35 ) وقال تعالى في " سورة هود " حاكيا قول الملأ ، أي الأشراف من قوم نوح عليه السلام له : ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ( 11 : 27 ) وقوله لهم : ( وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ) إلى قوله : ( أفلا تذكرون ) ( 11 : 29 ، 30 ) وقد حكى الله عن كفار قريش أنهم قالوا في هؤلاء الضعفاء السابقين إلى الإسلام : ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) ( 46 : 11 ) وقال في شأنهم من " سورة مريم " : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) ( 19 : 73 ، 74 ) .
ومعنى الآية هنا : ولا تطرد أيها الرسول هؤلاء المؤمنين الموحدين الذين يدعون ربهم [ ص: 364 ] بالغداة والعشي ، أي في النهار وآخره أو في عامة الأوقات ; لأنه يكنى بطرفي الشيء عن جملته ، يقال : يفعل كذا صباحا ومساءا إذا كان مداوما عليه ، وإذا أريد بالغدو والعشي حقيقتهما فيحتمل أن يراد بالدعاء الصلاة ؛ لأنها كانت في أول الإسلام صلاتين : إحداهما في الصباح والأخرى في المساء ، وروي عن مجاهد أن المراد صلاتا الصبح والعصر ; وإلا فالدعاء يشمل الدعاء الحقيقي والصلاة والقرآن المشتملين عليه ، والغداة والغدوة كالبكرة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والعشي آخر النهار ، وقيل : من المغرب إلى العشاء ، وقيل : من بعد الزوال . وقرأ ابن عامر ( بالغدوة ) بضم الغين وفتح الواو ، ويساعده رسم المصحف ؛ لأن الكلمة فيه بالواو كالصلاة والزكاة ، والباقون بالغداة بفتح الغين ، وقلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها حسب القاعدة . واستعملت " غدوة " بالضم - بالتنوين وبغير التنوين كبكرة ، ومعرفة بالألف واللام كما نقل عن سيبويه الخليل ، فإذا نونت قصد بها صباح يوم غير معين ، وإذا لم تنون قصد بها صباح معين ، ولعل الأكثر في استعمالها أن تكون بغير الألف واللام ، وقد ظن أبو عبيد أن هذا مطرد ، ولم يعلم أن قراءة ابن عامر رواية متواترة يثبت بها تعريف الغدوة في أصح الكلام ، بل ظن أنها خطأ جاء من جهة الرسم فخطأ من قرأ بذلك ، وحسبك في تخطئته هو أن القراءة متواترة ، وإن لم ينقل الخليل وكذا تعريفها عن العرب . والمشهور أن منع صرف ( غدوة وبكرة ) للعلمية الجنسية ، وقيل للعلمية الشخصية . المبرد
وقوله تعالى : ( يريدون وجهه ) حال من ضمير " يدعون " ، أي : يدعون ربهم بالغداة والعشي مريدين بهذا الدعاء وجهه سبحانه وتعالى ، مبتغين مرضاته ، أي يتوجهون به إليه وحده مخلصين له الدين ، فلا يشركون معه أحدا ، ولا يرجون من غيره عليه ثوابا ، ولا يتوقعون به من أحد مدحا ولا نفعا ، فهذا التعبير يدل على الإخلاص لله تعالى في العمل وابتغاء مرضاته به وحده وعدم الرياء فيه ، كما قال تعالى حكاية عن المطعمين الطعام على حبه : ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا 76 : 9 ) وكما قال في الأتقى الذي ينفق ماله ليتزكى به عند الله تعالى ويكون مقبولا مرضيا لديه : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) ( 92 : 19 - 21 ) [ ص: 365 ] ولعل أصل ابتغاء الوجه بالعمل هو أن يعمل ليواجه به من عمل لأجله ، فيعتني بإتقانه ما لا يعتني بإتقان ما يعمل ليرسل إلى من عمل له ، أو لأنه مطلوب في الجملة من غير أن يلاحظ العامل أن من يعمل له يراه ، فضلا عن كونه هو الذي يعرضه بنفسه على من يريد التقرب إليه به ، وذلك أن الأعمال التي تعمل للملوك والأمراء منها ما لا يرونه البتة كأن يكون لما لا يطلعون عليه من أعمال الخدمة في قصورهم ، ومنها ما يرونه رؤية إجمالية مع كثير من أمثاله ، وما يرونه منها يعرضه عليهم عمالهم وحجابهم ، ومنها ما قد يعرضه العامل بنفسه ويقابل وجه الملك به ، ولا شك أن هذا النوع من العمل هو الذي يعتنى به أكمل الاعتناء ، ولا يفكر العامل له في وقعه عند الحجاب أو الوزراء أو غيرهم من بطانة الملك أو حاشيته ; لعلمه بأنه هو الذي سيعرضه عليه ويلقاه به ، فيكون همه محصورا في جعله مرضيا عنده ، جديرا بقبوله وحسن الجزاء عليه .
ولا يغرنك ما تخيله بعض الصوفية من جعل ابتغاء الله تعالى منافيا لابتغاء مرضاته أو ابتغاء وجهه ، فالحق أن لا منافاة ، وأن الكمال في الجمع بين الأمرين ، وأن العمل لأجل الذات التي يفسرون بها الوجه مع عدم قصد الرضاء ولا الثواب من النظريات التي لا يسهل إثبات إمكانها ولا مشروعيتها ، ولا ينكر ما يعرض لبعض الناس من الأحوال النفسية التي ينحصر تخيلهم فيها ، حتى يظنوا أنها حقيقة ثابتة في نفسها ، وصاحب تلك الحال لا يعرف حقيقة الذات ، ولا يعقل معنى كون العمل لها ، نعم إن من الواقع الذي لا ينكر أن يقصد العامل بعمله النجاة من عقاب النار أو الفوز بنعيم الجنة ، وإن هذا حسن ومحمود شرعا ، ولكنه دون مرتبة الكمال الذي هدى إليه القرآن ، وهو أن يقصد المؤمن بالعمل الصالح تزكية نفسه وتكميلها ؛ لتكون أهلا للقاء الله ، ومحلا لمرضاته وثوابه في دار كرامته ، وأعلى الثواب رضوان الله تعالى ، وكمال العرفان والعلم به المعبر عنه في الأحاديث الشريفة برؤية وجهه الكريم ، بلا كيف ولا تشبيه ولا تمثيل ، وقد قربنا هذا المعنى العالي في باب الفتوى من المنار فيراجع فيه ، ولعلنا نعود إليه في التفسير .
( ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم ) أي ما عليك شيء ما من أمر حساب هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ، لا على دعائهم ولا على غيره من أعمالهم الدينية - كما تدل على ذلك صلة الموصول - وإلا فظاهر تأكيد النفي عمومه . كما أنه ليس عليهم شيء ما من أمر حسابك على أعمالك حتى يمكن أن يترتب على هذا أو ذاك طردك إياهم بإساءتهم في عملهم أو محاسبتك على عملك ، فإن الطرد جزاء ، وإنما يكون على عمل سيئ يستوجبه ، ولا يثبت إلا بحساب ، والمؤمنون ليسوا عبيدا للرسل ولا أعمالهم الدينية لهم ، بل هي لله تعالى يريدون بها وجهه لا أوجه الرسل ، وحسابهم عليه تعالى لا عليهم ، وإنما الرسل هداة معلمون ، لا أرباب ولا مسيطرون ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ) ( 88 : 21 ، 22 ) وإذا لم يكن للرسل حق السيطرة على الناس ومحاسبتهم على أعمالهم الدينية [ ص: 366 ] فليس للناس عليهم هذا الحق بالأولى ، والمأثور عن النصارى أن المسيح عليه السلام كان يسمى معلما ، وأن أتباعه في عهده كانوا يسمون تلاميذ . وأما أتباع نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد اختار لهم كلمة الأصحاب الدالة على المساواة تواضعا ، على أن من أصول شريعته الكاملة أنه - صلى الله عليه وسلم - مساو في أحكامها لسائر المؤمنين فيما يجب ويندب ويحل ويحرم ويباح ويكره إلا ما خصه الله تعالى به من الأحكام ، ولم تكن تلك الأحكام الخاصة من قبيل ما يعهد الناس من امتياز الملوك على الرعايا من أمور الأبهة والزينة والعظمة الدنيوية والنعيم ، بل هي أحكام شاقة لا يقوى على القيام بها غيره - صلى الله عليه وسلم - كوجوب قيام الليل عليه ، وكون ما يتركه صدقة للأمة لا إرثا لذريته ، وكفالته عدة أزواج من الأرامل أكثرهن مسنات يساوي بينهن وبين عائشة الجميلة الصورة البارعة الذكاء في كل ما يملك من نفسه وذات يده ( وحكمة تعددهن قد فصلناها في تفسير آية تعدد الزوجات من أول " سورة النساء " [ راجع ص 287 وما بعدها ج 4 ط الهيئة ] ثم زدناها بيانا في المنار ) .
وقيل : إن المراد هنا الحساب على الرزق إذ زعم المشركون أن أولئك الضعفاء ما آمنوا به - صلى الله عليه وسلم - إلا لأنهم يجدون عنده رزقا ، وأنهم ليسوا بصادقين في إيمانهم فكأن الله تعالى يقول له ليس عليك من حساب رزقهم ولا عليهم من حساب رزقك شيء وإنما يرزقكم الله جميعا ، وحمل الآية على هذا ضعيف ، وإن نقل عن ابن زيد ، والأول منقول عن عطاء ، وعليه الجمهور . وإذا صح أن كبراء المشركين طعنوا في إيمان ضعفاء المسلمين فالأقرب أنهم قصدوا بذلك الكيد ؛ للتفرقة بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصد سائر الضعفاء عنه بأن عاقبتهم الطرد والإبعاد ، كما يصدون الأقوياء والكبراء بإثارة الحمية والكبرياء ، فإن كان فيهم من أساء الظن ببعض أولئك السابقين الكرام لاحتقارهم إياهم ، فإنما كان في أول العهد بإسلامهم ، قبل أن كان ما كان من فتنتهم ، فقد فتنوهم بأنواع من العذاب ليرجعوا إلى الشرك كالجوع والحبس ، والضرب ، بل كانوا يكوون بعضهم بالنار كما فعلوا بآل ياسر ، أو بوضعهم عراة الأبدان على الرمل المحمى بهجير الصيف كما فعلوا ببلال .
وقوله تعالى : ( فتكون من الظالمين ) جواب للنهي عن الطرد ، وأما قوله قبله : ( فتطردهم ) فهو جواب لنفي الحساب تنتهي به الجملة الاعتراضية المعللة لعدم جواز الطرد ببناء نفيه على نفي سببه الذي يتوقف جوازه عليه . وجوز وغيره عطف الثاني على الأول ، وأورد عليه إيرادات أجيب عنها بسهولة ، وجوز بعضهم كون الأول جواب النهي والثاني معطوفا عليه ، وأوردوا عليه ما لا يجاب عنه إلا بتكلف . والمعنى على الأول - وهو الصحيح - لا تطرد هؤلاء فتكون بطردك إياهم من جنس الظالمين ومعدودا في زمرتهم ; لأن طردهم لا يكون حقا وعدلا إلا إذا كان جزاء على إساءتهم في الأعمال التي يعملونها لمن له حق حسابهم [ ص: 367 ] وجزائهم عليها ، ولست أنت بصاحب هذا الحق حتى يتأتى أن تجري فيه على صراط العدل ، ذلك بأن عملهم هو عبادة الله تعالى وحده يريدون بها وجهه ، فحسابهم وجزاؤهم عليه وحده ، كما قال الزمخشري نوح عليه السلام : ( إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون 26 : 113 ) فوجه الكون من الظالمين أن الطرد لو حصل يكون حكما غير جائز ممن لا يملك الحكم لذاته ( إن الحكم إلا لله ) ( 57 ) والله لم يفوض إليه هذا النوع منه ، ثم إنه جائز في موضوعه ، مع كونه غير جائز في صورته وشكله ; إذ هو ظلم للمحكوم عليهم ؛ لأنهم أولى الناس بقربه - صلى الله عليه وسلم - والاستفادة منه ، وظلم لنفس الحاكم - وحاشا أن يقع منه - لأنه ينافي مصلحة الدعوة ، فلما كان ظلما من الجهات الثلاث قال : ( فتكون من الظالمين ) ولم يقل : فتظلمهم ، أو : فتكون ظالما ، أو : فيكونوا من المظلومين .
والآية متممة لبيان وظائف الرسول من الجهة السلبية ; إذ صرح فيها بأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم بعد أن صرح بأنه لا يملك التصرف في الكون ، ولا يعلم الغيب ، وبأنه ليس ملكا ، وليس الغرض منها التشديد في تنفير النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طرد المؤمنين ; لأنه كان رضي بذلك كما زعم بعض المفسرين ، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - أن يرضى بذلك أو يميل إليه بعد أن عاتبه ربه على الإعراض والتلهي عن الأعمى ( ) لما جاءه يطلب العلم والهدى منه وهو - صلى الله عليه وسلم - متصد لدعوة بعض كبراء عبد الله بن أم مكتوم قريش ، طامع في هدايتهم ، وخاف أن يفوته ذلك بإقباله على ذلك الأعمى الفقير ، كما هو مبين في أول سورة ( عبس وتولى ) ( 80 : 1 ) والمروي أنها نزلت قبل " سورة الأنعام " ، وقد اغتر من زعم ذلك برواية منكرة باطلة ، وهي ما رواه ، ابن أبي شيبة ، وابن ماجه ، وابن جرير وأبو الشيخ ، والبيهقي في الدلائل ، وغيرهم ، خباب قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين ، فلما رأوهم حول النبي - صلى الله عليه وسلم - حقروهم ، فأتوه فخلوا به ، وقالوا : نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا ; فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد ، فإن نحن جئنا فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت . قال : " نعم " قالوا : اكتب لنا عليك كتابا ، قال : فدعا بصحيفة ، ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية ، فنزل جبريل فقال : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم ) الآية ، فرمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيفة ثم دعانا فأتيناه . قال الحافظ عن ابن كثير بعد إيراده لسنده عند : ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن جرير أسباط به ، وهذا حديث غريب ، فإن هذه الآية مكية ، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر . اهـ . وأقول : إن هذه الرواية باطلة من وجوه ؛ منها ما ذكره الحافظ ابن كثير من تأخر إسلام الأقرع وعيينة ، وظاهر ما في الإصابة أن الأقرع بن حابس أسلم قبيل فتح مكة ، وصرح الحافظ [ ص: 368 ] الذهبي بأنه أسلم بعد الفتح ، ويؤيده ما في السير . وأما عيينة فقد أسلم سنة خمس ، ولم يعرف الرجلان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامهما ، ولم يكونا من أشراف مكة ، بل كانا من جفاة الأعراب ، ولما أسلما كانا من صنف المؤلفة قلوبهم ، ومنها أنهما ذكرا قدوم الوفود على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن ذلك في مكة ، بل كان الناس فيها يصدون عنه صدودا ، وإنما كان في أواخر عمره - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة ، ومنها ما تقدم آنفا من عدم جواز إجابته - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الطلب ، ولو مع القصد الحسن بعد قوله تعالى له : ( كلا ) في " سورة عبس " ، وقد استشكل بعض المفسرين قوله تعالى : ( وما من حسابك عليهم من شيء ) بناء على أن تعليل نفي ملك النبي - صلى الله عليه وسلم - لطردهم يتم بنفي كونه يملك شيئا من حسابهم ، وأن هذه الزيادة وإن كانت حقا لا يظهر لها دخل في التعليل . ويجاب على طريقتنا بأن طرد القوي للضعيف أو الكبير للصغير قد يترتب على محاسبة كل منهما للآخر ، فكم من قوي حاسب ضعيفا على عمل وجازاه عليه بالطرد ، وكم من ضعيف حاسب قويا على حقه وطالبه به ، أو على حق من حقوق أمته فطرده القوي لمناقشته إياه الحساب ، فلما بين هاهنا أنه لا حق لأحد الفريقين في حساب الآخر على شيء ما ، علم أن القوي منهما لا حق له في طرد الضعيف بحال من الأحوال ، فإذا لا يكون طرده إياه - إن وقع - إلا ظلما ، وعلى تقدير التسليم يقال : إنه لا يستنكر في الكلام المراد به الهداية والإرشاد أن يزاد فيه من الفوائد الاستطرادية ما يناسب المقام . فلما بين تعالى للرسول أنه لم يجعل من حقه على المؤمنين أن يحاسبهم على أعمالهم الدينية ويجازيهم عليها ; لأن هذا من حق ربهم وإلههم ، لا من حق رسولهم - بين له أيضا أنه لم يجعل من حق المؤمنين على الرسول أن يحاسبوه على شيء من أعماله الخاصة به ولا العامة كتبليغ الدين وبيانه ، ولو شاء لفعل ، كما جعل حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لبعض المؤمنين على بعض ، سواء في ذلك أئمتهم ورعيتهم ، فالإمام ( السلطان ) راع ، وهو مسئول عن رعيته ، لأهل الحل والعقد من الأمة أن يحاسبوه كما يحاسب هو من دونه من العمال ، وليس لأحد من الناس أن يحاسب الرسول على سياسته أو تبليغه دعوة ربه ، ولكن للرسول أن يحاسب الناس على معاملة بعضهم لبعض عندما يكونون أمة مقيدة في أعمالها الدينية بشريعة ذلك الرسول ، ولما نزلت سورة الأنعام لم يكن المسلمون كذلك ، والظاهر أن عموم النفي فيها قد خصص بعد الهجرة عند من فهم منه العموم ، وعندنا أن المراد منه في الأصل خصوص العبادة والإخلاص فيها ، وهو محكم باق على عمومه ، وقال في نكتة ضم الجملة الثانية إلى الأولى : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة ، وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى في قوله : ( الزمخشري ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ( 164 ) ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا ، كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه . اهـ . أي لا يؤاخذ أحد منكما بحساب الآخر . [ ص: 369 ] وقال أبو السعود وذكر قوله : ( وما من حسابك عليهم من شيء ) مع أن الجواب قد تم بما قبله للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه - صلى الله عليه وسلم - بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا ، وهو انتقاء كون حسابه عليه السلام عليهم على طريق قوله تعالى : ( لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) . اهـ . ثم زعم أن ما قاله غير حقيق بجلالة شأن التنزيل ، وتبعه الزمخشري الألوسي كعادته ولم يعز الكلام إليه هنا . ولعل المتأمل يرى أن ما قلناه هو الحقيقي بجلال شأن التنزيل ؛ لأنه - على كونه هو المتبادر من الكلام - مبني على التأسيس ، وبقائه محكما لم يطرأ عليه نسخ ولا تخصيص ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
قال الألوسي : وتقديم خطابه - صلى الله عليه وسلم - في الموضعين قيل : للتشريف له - عليه أشرف الصلاة وأفضل السلام - وإلا كان الظاهر : وما عليهم من حسابك من شيء ، بتقديم على ومجرورها كما في الأول ، وقيل : إن تقديم عليك في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به - صلى الله عليه وسلم - إذ هو الداعي إلى تصديه عليه الصلاة والسلام لحسابهم . اهـ . والصواب أن التقديم في الموضوعين جاء على الأصل العام في اللغة ، وهو تقديم الأهم بحسب سياق الكلام ، والأهم في الأول النفي ، وفي الثاني المنفي ، أعني الأهم في كل موضع ما يتعلق به - صلى الله عليه وسلم - . لأنه تعليل لانتفاء عمل له ( وهو الطرد ) مترتب على ذلك النفي ، ولو كان الثاني تعليلا لعمل لهم لقال : وما عليهم من حسابك من شيء فيطردوك ، وما شرحناه في تفسير الجملتين يغني عن التفصيل في بيان هذا المعنى .
والآية تدل على نفي الرياسة الدينية المعهودة في الملل الأخرى ، وهي سيطرة رؤساء الدين على أهل دينهم في عقائدهم وعباداتهم ومحاسبتهم عليها ، وعقاب من يرون عقابه منهم حتى بالطرد من الدين والحرمان من حقوقه ، ويجب في بعض تلك الملل أن يعترف كل مكلف من ذكر وأنثى للرئيس الديني بأعماله النفسية والبدنية ، وللرئيس أن يغفر له ما يعترف به من المعاصي ، ويعتقدون أن مغفرة الله تعالى تتبع مغفرته ، وإذا كان الله تعالى لم يجعل للرسول الذي أوجب طاعته حق محاسبة الناس على أعمالهم الدينية ونيتهم فيها ، ولا حق طردهم من حضرته - دع حق طردهم من الدين - فكيف يمكن أن يكون لمن دونه من الأمراء أو القضاء أو غيرهم من الرؤساء مثل هذا الحق ؟ ! ويستنبط من الآية ألا يجوز لرؤساء المدارس الدينية ولا ينبغي لغيرهم - فضلا عن طرده من المدرسة ، وحرمانه من تلقي الدين والعلم ألبتة ، ولكن قد يجوز ذلك بمقتضى نظام لا لأجل الانتقام . وقد كان من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 370 ] تأليف قلوب ضعفاء الإيمان حتى بعد قوة الإسلام وإعزازه ، بل كان يعامل المنافقين بما يقتضيه ظاهر إسلامهم ، عملا بقاعدة بناء الأحكام على الظواهر ، وأن الله هو الذي يتولى السرائر فأين هذا من طرد كملة المؤمنين السابقين الأولين ، الذين لم يكن لهم حظ دنيوي من إسلامهم إلا الصبر والبلاء المبين ؟ . عقاب أحد من طلاب العلم بالحرمان من بعض الدروس