( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين ) .
[ ص: 378 ] بعد أن أرشد الله تعالى رسوله إلى ما تقدم من سياسة المؤمنين ، وتبليغهم ما ذكر من أصول حكمة الدين ، عاد إلى تلقينه ما يحاج به المشركين ، من بلاغ الوحي وناصع البراهين ، فقال :
( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) النهي : الزجر عن الشيء بالقول - مثل : لا تكذب واجتنب قول الزور - والكف عنه بالفعل ، ومنه قوله تعالى : ( ونهى النفس عن الهوى ) ( 79 : 40 ) والدعاء : النداء وطلب الخير أو دفع الضر من الأعلى ، وإنما يكون عبادة إذا كان في أمر وراء الأسباب المسخرة للعباد التي ينالونها بكسبهم لها واجتهادهم فيها وتعاونهم عليها ، فإن ما نعجز عن نيله بالأسباب المسخرة لنا لا نطلبه إلا من الخالق المسخر للأسباب - وقد بينا ذلك مرارا كثيرة - فالله تعالى يقول لرسوله هنا : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى : إني نهيت أن أعبد الذين تدعونهم وتستغيثونهم من دون الله ، أي غير الله من الملائكة وعباد الله الصالحين ، بله ما دونهم من الأصنام والأوثان التي لا علم لها ولا عمل ، وهذا النهي يصدق بنهي الله تعالى إياه عن ذلك في آيات القرآن الكثيرة وأمره بضده وهو دعاء الله تعالى وحده ، وبنهي العقل والفطرة السليمة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل البعثة موحدا ، ولم يكن قط مشركا ، ولأجل هذا قال : " نهيت " بالبناء للمفعول .
( قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ) أي قل لهم : لا أتبع أهواءكم في عبادتهم ولا في غيرها من أعمالكم التي تتبعون بها الهوى ، ولستم في شيء منها على بينة ولا هدى ، ولماذا ؟ لأنني إن اتبعتها فقد ضللت ضلالا أخرج به من جنس المهتدين ، فلا أكون منهم في شيء ، فإن هذا الضلال لا يقاس بغيره ؛ لأنه هو الضلال البعيد عن صراط الهدى .
( قل إني على بينة من ربي ) أي : قل لهم أيها الرسول أيضا : إني فيما أخالفكم فيه على بينة من ربي هداني إليها بالوحي والعقل ، والبينة كل ما يتبين به الحق من الحجج والدلائل العقلية ، والشواهد والآيات الحسية ، ومنه تسمية شهادة الشهود بينة ، والقرآن بينة مشتملة على أنواع كثيرة من البينات العقلية والكونية ، فهو على كونه من عند الله تعالى - للقطع بعجز الرسول كغيره عن الإتيان بمثله - مؤيد بالحجج والبينات المثبتة لما فيه من قواعد العقائد وأصول الهداية ( وكذبتم به ) أي والحال أنكم كذبتم به ، أي بالقرآن الذي هو بينتي من ربي ، فكيف تكذبون أنتم ببينة البينات على أظهر الحقائق وأبين الهدايات ، ثم تطمعون أن أتبعكم على ضلال مبين لا بينة لكم عليه إلا محض التقليد ، وما كان التقليد بينة من البينات ، وإنما هو براءة من الاستدلال ، ورضاء بجهل الآباء والأجداد ، فالكلام حجة مسكتة مبكتة على ما قبلها من نفي عبادته - صلى الله عليه وسلم - للذين يدعونهم من دون الله ، وقيل : إن المعنى وكذبتم بربي ، أي : بآياته أو بدينه ، وإلا فإن القوم كانوا يؤمنون بأن الله هو ربهم ورب السماوات والأرض وما بينهما ، والقرآن ناطق بذلك ، وفسر بعضهم التكذيب بالرب باتخاذ شريك له ، ولم يكن اتخاذهم الشركاء تكذيبا بالربوبية ؛ إذ لم يكونوا يقولون : إن غيره تعالى يخلق [ ص: 379 ] معه أو يرزق ، وإنما كانوا يدعون غيره ليقربهم إليه ويشفع لهم عنده ، وهذا الدعاء عبادة وشرك بالإلهية لا تكذيب بالربوبية .
ولما ذكر بينته وتكذيبهم به قفى برد شبهة تخطر عند ذلك بالبال ، ومن شأنها أن يقع عنها منهم السؤال ، وهي أن الله أنذرهم عذابا يحل بهم إذا أصروا على عنادهم وكفرهم ، ووعد بأن ينصر رسوله عليهم ، وقد استعجلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فكان عدم وقوعه شبهة لهم على صدق القرآن ، لجهلهم بسنن الله تعالى في شئون الإنسان ، فأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم : ( ما عندي ما تستعجلون به ) أي ليس عندما تطلبون أن يعجل الله لكم من وعيده ، ولم أقل لكم : إن الله فوض أمره إلي حتى تطالبوني به وتعدون عدم إيقاعه حجة على تكذيبه ( إن الحكم إلا لله ) أي ما الحكم في ذلك وفي غيره من التصرف في شئون الأمم إلا لله وحده ، وله في ذلك سنن حكيمة ومقادير منتظمة تجري عليها أفعاله وآجال مسماة تقع فيها ، فلا يتقدم شيء عن أجله ولا يتأخر ( وكل شيء عنده بمقدار ) ( 13 : 8 ) ( ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ) .
( يقص الحق وهو خير الفاصلين ) قرأ ابن كثير ونافع وعاصم " يقص " من القصص ، وهو ذكر الخبر أو تتبع الأثر ، أي يقص على رسوله القصص الحق في جميع أخباره ووعده ووعيده ، أو يتتبع الحق ويصيبه في أقواله وأفعاله التي يتصرف بها في عباده ، وقرأه الباقون " يقض " من القضاء وأصله يقضي بالياء فحذفت الياء في الخط كما حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، ولما كانت المصاحف غير منقوطة كانت الكلمة في المصحف الإمام هكذا " نقص " فاحتملت القراءتين ، وحذف حرف المد الذي يسقط من اللفظ معهود في المصاحف ، ومنه ( حكمة بالغة فما تغن النذر ) ( سندع الزبانية ) ( 96 : 18 ) ومعناه يقضي في أمركم وغيره القضاء الحق ، أو ينفذ الأمر ويفصله بالحق ، وهو خير الفاصلين في كل أمر ؛ لأنه الحكم العدل ، المحيط علمه والنافذ حكمه في كل شيء ، وتقدم تحقيق معنى القضاء في تفسير الآية الثانية من هذه السورة .
( قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يستعجلونك بالعذاب كقولهم ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ( 8 : 32 ) : " لو أن عندي ما تستعجلون به " بأن كان مما جعله الله في مكنتي وتصرفي بقدرتي الكسبية أو بجعله آية خاصة بي " لقضي الأمر بيني وبينكم " بإهلاكي للظالمين منكم الذين يصدونني عن تبليغ دعوة ربي ويصدون الناس عني ، فإن الإنسان خلق من عجل ، وإنما أستعجل أنا بإهلاك الظالمين منكم ما وعدني ربي من نصر المؤمنين المصلحين المظلومين ، وخذلان الكافرين المفسدين الظالمين ، وهو استعجال للخير ، وأنتم تستعجلون الشر لأنفسكم ، وتقطعون عليها طريق الهداية بإمهال الله لكم ( والله أعلم بالظالمين ) [ ص: 380 ] الذين تمكن الظلم من أنفسهم ، وأحاط بها ، فلا رجاء برجوعهم عنه إلى الإيمان والحق والعدل ، وبمن ألم بهم الظلم أو ألموا به ، لكنه لم يمح نور الفطرة من أنفسهم ، ولم يذهب باستعدادهم للاهتداء إلى الحق الذي أدعوهم إليه . ولما كان سبحانه وتعالى أعلم بالظالمين لم يجعل أمر عقابهم إلي ، فهو عنده لا عندي ، ولكل من عذاب الدنيا والآخرة أجل مسمى عنده ، يراه قريبا وترونه بعيدا ، وأيامه تعالى في عالم التكوين وشئون الأمم ليست قصيرة كأيامنا بل طويلة ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ) ( 22 : 47 ، 48 ) فهو لا يؤخر ما وعد به إلى الأجل المسمى عنده إلا لحكمة ( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ( 7 : 34 ) .
هذا ما ظهر لنا في قضاء الأمر على تقدير كون ما يستعجلون به في مكنته - صلى الله عليه وسلم - وليس المراد به إن كان يهلكهم كلهم كما هلكت الأمم التي كذبت الرسل من قبلهم ، أي : ليس المراد بما يقضي من الأمر هنا عذاب الاستئصال ولا عذاب الآخرة ، وإن كانوا قد استعجلوا كلا منهما ، بل نصر الرسول عليهم . وفي قوله : ( لقضي الأمر ) بإسناد الفعل إلى المفعول إشارة إلى أنه لو كان عنده - صلى الله عليه وسلم - وقضي لما قضي إلا بمشيئة الله تعالى وقدرته .