( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) الظاهر المتبادر أن المعنى : ثم يرد أولئك الذين تتوفاهم الرسل إلى الله الذي هو مولاهم الحق ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم ، فيكون بمعنى آية ( الم السجدة ) ( 32 : 11 ) التي تقدمت آنفا . وقيل : إن المعنى : ثم يرد أولئك الرسل إلى ربهم بعد إتمام ما وكل إليهم بموت جميع الناس ، فيموتون هم أيضا ، ذكره الرازي ، وهو ضعيف من وجوه منها مخالفته لآية السجدة ، ومنها أن الكلام في البشر وبيان الدين لهم وإقامة حججه عليهم ، ومنها أن الحساب الذي ختمت بذكره الآية حساب البشر لا حساب ملك الموت وأعوانه .
وفي الجملة مباحث لفظية ومعنوية يتضح بها ما فيها من البلاغة .
( الأول ) أن في الكلام التفاتا من الخطاب إلى الغيبة ؛ لأن ما قبله خطاب منه سبحانه للمكلفين . والتفاتا آخر من التكلم إلى الغيبة ، وإلا لقال : ثم رددناكم أو : رددناهم - على الالتفات - إلخ . ونكتة الالتفات تفهم من المباحث الأخرى .
( الثاني ) أنه جعل فعل الرد مبنيا للمفعول ؛ للدلالة على أن له تعالى رسلا أخرى - والظاهر أنهم غير رسل الموت ورسل الحفظ - يردون العباد إليه بعد البعث عندما يحشرونهم بأمره للحساب والجزاء ، وهذه أظهر نكت الالتفات .
( الثالث ) ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في قوله : ( ردوا ) للكل المدلول عليه بأحد من قوله : ( إذا جاء أحدكم الموت ) وأن هذا هو السر في مجيئه بطريق الالتفات والإفراد أولا والجمع آخرا ، لوقوع التوفي على الإفراد والرد على الجملة والمجموع . ونحن نرى أنه لا حاجة إلى تكلف القول برجوعه إلى الكل المدلول عليه بأحد ، والالتفات عبارة عن جعل ضمير الخطاب الذي للجماعة ضمير غيبة لهم .
( الرابع ) أن هذا الرد يكون بعد البعث ، فكان الأصل أن يعبر عنه بفعل الاستقبال كما في آية السجدة ( ثم تردون ) وعبر هنا بالماضي لإفادة تحقيق الوقوع حتى كأنه وقع وانقضى .
( الخامس ) من فوائد الالتفات من التكلم إلى الغيبة ذكر اسم الجلالة ووصفه بما وصف به ، ولا يخفى أن تأثيره في النفس هنا أعظم من تأثير ضمير المتكلم [ ص: 405 ] ( السادس ) قالوا : إن الرد إلى الله هو الرد إلى حكمه وقضائه وحسابه وجزائه ، أو إلى موقف الحساب ، ومكان العرض والسؤال ؛ لأن الرد إلى ذاته غير معقول وغير ممكن ، وهذا التعليل لا يحتاج إليه العربي القح لفهم ما ذكر من الآية ، ولا الدخيل في العربية إلا من كان مطلعا على مذهب غلاة أهل الوحدة ، ولو صح مذهبهم لكان سياق الكلام مانعا أن يكون مرادا من العبارة كما يمنعه من أسلوبه وصف اسم الذات بما وصف به ، وما ختمت به الآية وهاك بيانه :
( السابع ) أن وصف الاسم الكريم بمولاهم الحق يدل على أن ردهم إليه حتم ؛ لأنه هو سيدهم الحق الذي يتولى أمورهم ويحكم بينهم بالحق . والحق في اللغة هو الثبات المتحقق ، وهذا الوصف لا يتحلى به أحد من الخلق إلا على سبيل العارية المؤقتة ، فما كان من تولي بعض العباد أمور بعض بملك الرقبة ، أو ملك التصرف والسياسة - فمنه ما هو باطل من كل وجه ، ومنه ما هو باطل من حيث إنه موقوت لا ثبات ولا بقاء له ، وحق من حيث إن مولاهم الحق أقره في سننه الاجتماعية أو شرائعه المنزلة لمصلحة العباد العارضة مدة حياتهم الدنيا ، فثبت بذلك أن الله عز وجل هو مولاهم الحق وحده ، وما كان من ولاية غيره الباطلة من كل وجه أو الباطلة في ذاتها دون صورتها المؤقتة فقد زال كل ذلك بزوال عالم الدنيا وبقي المولى الحق وحده ، كما زال كل ملك وملك صوريين كانا للخلق في هذا العالم ، وصاروا إلى يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئا ( س 82 : 19 ) وظهر يومئذ أن الملك الصوري والحقيقي لله الواحد القهار ( س 40 : 16 ) وكل هذا مبطل لخيال وحدة الوجود ، وكذا ما بعده وهو ( ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) " ألا " حرف استفتاح يذكر في أول الكلام لتنبيه المخاطب لما بعده إذا كان مهما ؛ لئلا يفوته منه شيء ، وقوله : ( له الحكم ) يفيد الحصر ، أي له الحكم وحده ليس لغيره منه شيء في ذلك اليوم ، لا على سبيل الصورة والإضافة المؤقتة ولا على سبيل الحقيقة ( إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم 27 : 78 ) ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ( 42 : 10 ) ( قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون 39 : 46 ) والآيات في هذا المعنى كثيرة . وفسر كونه تعالى أسرع الحاسبين بأنه يحاسب العباد كلهم في أسرع زمن وأقصره لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره ؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، فاسم التفضيل فيه على غير بابه ؛ إذ لا محاسب هنالك غيره ، أو هو بالنسبة إلى المحاسبين أو الحاسبين في غير الآخرة ، ولفظ الحاسبين اسم الفاعل من حسب الثلاثي لا من حاسب ، والحساب مصدر لكل منهما ، يقال : حسبه حسبا وحسابا وحاسبه محاسبة وحسابا ، والمحاسبة أو الحساب في المعاملة مبني على الحسب والحساب الذي هو العد والإحصاء ، لأن المحاسب [ ص: 406 ] يحصي على من يحاسبه العدد في المال ، أو ما نيط به من الأعمال . والمراد هنا أنه أسرع الحاسبين إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها ، وقد تقدم تفسير ( والله سريع الحساب ) ( 2 : 202 ) فيراجع في ج 2 من التفسير .