ثم قال - عز وجل - : ( حتى تتبع ملتهم ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى ) فعاد إلى ذكر أهل الكتاب على ما عهدنا في أساليب القرآن من ضروب الانتقال بالمناسبات الدقيقة .
وقد قال الأستاذ الإمام غير مرة : إن الذين يخصون كل طائفة من الكلام بموضوع معين ويسمونها فصلا أو بابا ، ولكن للقرآن أغراضا يبرزها بصور مختلفة ، فكلما لاحت المناسبة لذكر شيء منها أو الاحتجاج عليه أو الدفاع عنه ، جاء به يجذب إليه الأذهان ، ويسارق به خطرات القلوب ، مع مراعاة التناسق ، وحفظ الأسلوب البليغ ، لهذا يتكرر فيه المعنى الواحد بعبارات متعددة ، ويتجلى الروح الواحد في أشكال متنوعة ، فلم يذكر هاهنا المشركين إلا لما بينهم وبين القرآن لم يأت على طريقة المنشئين والمؤلفين أهل الكتاب من التناسب والتقارب في المجاحدة والمعاندة ، فكان ذكرهم من متمات الحجة على أهل الكتاب من حيث أدى غرضا مقصودا في ذاته . ولما كان ذكرهم في عرض الكلام كالجملة الاعتراضية ، كان الرجوع إلى سرد شئون أهل الكتاب مع النبي - عليه السلام - رجوعا إلى أصل الموضوع .
وقال في معنى الآية : من شأن الإنسان أن يتألم من القبيح أشد التألم إذا وقع ممن لا يتوقع منه ، فكان النبي - عليه الصلاة والسلام - يرجو أن يبادر أهل الكتاب إلى الإيمان به ، وألا يرى منهم المكابرة والمجاحدة والعناد ؛ ولهذا كبر عليه أن رأى من إعراض اليهود والنصارى عن إجابة دعوته ، وإسرافهم في مجاحدته أشد مما رأى من مشركي العرب الذين جاء لمحو دينهم من الأرض ، مع موافقته لأهل الكتاب في أصل دينهم ومقصده من توحيد الله - تعالى - والإخلاص له وتقويم عوج الفطرة الإنسانية الذي طرأ عليها بسبب التقاليد ، وترقية المعارف الدينية إلى أعلى ما استعد له الإنسان من الارتقاء العقلي والأدبي ؛ ولذلك كان يخاطبهم بمثل قوله - تعالى - : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) ( 3 : 64 ) الآية ، وغيرها من الآيات . ولقد كان من الصعب - لولا إعلام الله - تعالى - أن تعرف درجة فتك التقليد بعقولأهل الكتاب وإفساد الأهواء لقلوبهم ، لذلك سلى الله - تعالى - نبيه عما كان يجده من عنادهم وإيذائهم بآيات كثيرة عرفه فيها حقيقة حالهم ، منها هذه الآية الناطقة بأن كلا من اليهود والنصارى على اتحادهم في أصل الدين قد تعصب لتقاليده ، واتخذ الدين جنسية لا يرضيه من أحد شيء إلا الدخول فيها وقبول لقبها ، فقوله تعالى: ( حتى تتبع ملتهم ) مراد به ما هم [ ص: 366 ] عليه من التقاليد والأهواء التي غيروا بها وجه الدين الواحد حتى صار بعضهم يحكم بكفر بعض كما تقدم في الآيات السابقة .
ثم أمره - تعالى - في مقابلة ذلك بقوله : ( قل إن هدى الله هو الهدى ) أي اجهر بقول الحق .
وهو أن الهدى الصحيح هو هدى الله الذي أنزله على أنبيائه دون ما أضافه إليه اليهود والنصارى بآرائهم وأهوائهم ، ففرقوا دينهم وكانوا شيعا ، كل شيعة تكفر الأخرى وتقول : إنها ليست على شيء ، أي فإن أردت استرضاءهم فلن يرضوا عنك إلا أن تتبع أهواءهم ، ( ولئن اتبعت أهواءهم ) التي أضافوها على كتبهم ، وجعلوها أصولا وفروعا لدينهم ، ( بعد الذي جاءك من العلم ) اليقين بالوحي الإلهي المبين ، والذي بين ما كان منهم من تحويل القول عن معناه بالتأويل ، وتحريفهم الكلم عن مواضعه ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به ، ( مالك من الله من ولي ولا نصير ) أي فإنك لن تنجح ولن تصل إلى حقك بمجاراتهم على باطلهم ؛ ولأن الله لا ينصرك على ذلك إذ لا يرضيه أن يكون اتباع الهوى طريقا إلى الهدى ، والضال لا يرضيه إلا موافقته على ضلاله ومجاراته على فساده ، وإذا لم يكن الله هو الذي يتولى شئونك وينصرك بمعونته فمن ذا الذي ينصرك ويتولاك من بعده ؟
( أقول ) : ومفهوم هذا المصرح به في آيات أخرى ، أن ثباته على هدى الله المؤيد بالعلم هو الذي يكون سببا لتوليه - تعالى - له ونصره إياه عليهم . ومن المعلوم أن شرط ( ( إن ) ) لا يقتضي الوقوع ، فهو لا يدل على أن اتباع أهوائهم متوقع منه - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما هو فرض فرض لبيان مضمونه الذي ذكرنا ، وفيه أن من سنن الله تأييد متبعي الهدى على علم صحيح وأنهم هم الغالبون المنصورون ، وهو ما يعبر عنه علماء الاجتماع ببقاء الأمثل في كل تنازع بينه وبين ما دونه .
( الأستاذ الإمام ) : من تدبر هذا الإنذار الشديد الموجه من الله - تعالى - إلى نبي الرحمة ، المؤيد منه بالكرامة والعصمة ، علم أن المراد به الوعيد والتشديد على الأمة ، على حد ( ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) ) فإن الله - تعالى - يخاطب الناس كافة في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما جرى عرف التخاطب مع الرؤساء والزعماء ، فقد يقال للملك : إذا فعلت هذا كانت عاقبته كذا ، والمراد إذا فعلته دولتك أو أمتك ، وقد تقدم غير مرة إسناد عمل بعض الأفراد إلى الأمة كلها ، ولكن قوله : ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ) وهو يعلم جل شأنه أنه لا يتبع أهواءهم في حال من الأحوال ، وقد عصمه من الزيغ والضلال ، إنما جاء على هذا الأسلوب ؛ ليرشد من يأتي بعده ممن يتبع سنته ويأخذ بهديه ، فهو يرشدنا بهذا التهديد العظيم إلى الصدع بالحق و الانتصار له وعدم المبالاة بمن يخالفه ، مهما قوي حزبهم واشتد أمرهم ، وإنه لتهديد ترتعد منه فرائص الذين يخشون ربهم ، ولا سيما إذا [ ص: 367 ] أنسوا من أنفسهم ضعفا في الحق ، كأن تركوا الجهر به أو الدفاع عنه خوفا من إنكار العامة عليهم ولغط الناس بهم ، فمن عرف الحق وعرف أن الله - تعالى - ولي أهله وناصرهم ، لا يخاف في تأييده لومة لائم ، ولا يغترن أحد بمن يسميهم الناس علماء وعارفين في سكوتهم عن الحق ، ومجاراتهم لأهل الباطل ، فإنهم ليسوا على شيء من العلم الحقيقي ، وإن هي إلا كلمات يتلقفونها وعادات يتقلدونها ، لا حجة للأحياء فيها سوى قولهم : إن الميتين درجوا عليها .
( قال ) : وليس هذا هو العلم الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو شيء كان يلقب بالعلم عند الضالين من أهل الكتاب والمشركين كذلك ، وقد نفي عنه كونه علما على الحقيقة بمثل قوله : ( إن يتبعون إلا الظن ) ( 53 : 23 ) وبقوله : ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ) ( 2 : 78 ) فمن أخذ بقول القائلين ، واتبع ما وجد عليه السابقين ، بدون بينة يعرف بها وجه الحق من ذلك ، وكتاب الله بين يديه لا ينظر فيه ولا يرجع إليه ، فقد اتبع الهوى بعد الذي جاء من العلم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وباء بالخزي في الدنيا ، وبالنكال في الآخرة ، ولم يكن ولن يكون له من الله ولي ولا نصير ، اللهم أعنا على الجهر بالحق بعد ما عرفناه ، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا .