أورد نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري في تأويلات تفسيره عبارتين في الآيات ، قال في الأولى : إن إبراهيم رأى نور الرشد في صورة الكوكب ، ونور الربوبية في صورة القمر ، ونور الهداية في صورة الشمس ، وسبك ذلك بعبارة شعرية متكلفة . وأما العبارة الثانية فزعم أنها دارت في خلده ، وما هي إلا ما نقله الرازي ( الذي لخص هو تفسيره وزاد عليه هذه التأويلات ) عن - وذكرناه آنفا - إلا أنه تصرف فيه فجعله أقرب إلى التصوف . وقد نقل الغزالي الألوسي هذه العبارة الأخيرة عن النيسابوري في إشاراته ، وذكر قبلها إشارة جعل فيها الكواكب إشارة إلى النفس التي هي الروح الحيوانية ، والقمر إشارة إلى القلب ، والشمس إشارة إلى الروح ، وأنها أفلت بعد تجليها بتجلي أنوار الحق ، وهو أقل تكلفا مما قبله ، وإن كان باطلا مثله .
وأمثل ما قيل في باب الإشارة ما شرحه في بحث فرق المغرورين من الغزالي الصوفية في كتاب الغرور من الإحياء ، فإنه بعد أن ذكر الذين اغتروا بأول ما انفتح لهم من أبواب المعرفة وما شموا من رائحتها فوقفوا عنده ، قال :
( وفرقة أخرى ) جاوزوا هؤلاء ، ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق ، ولا إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ، ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها ، جادين في السير حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القربة إلى الله تعالى ، فظنوا أنهم قد وصلوا إلى الله فوقفوا وغلطوا ; فإن لله تعالى سبعين حجابا من نور ، لا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا يظن أنه قد وصل . وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام ، إذ قال تعالى إخبارا عنه : ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ) ( 6 : 76 ) وليس المعني به هذه الأجسام المضيئة ; فإنه كان يراها في الصغر ويعلم أنها ليست آلهة ، وهي كثيرة وليست واحدا ، والجهال يعلمون أن الكوكب ليس بإله ، فمثل إبراهيم - عليه السلام - لا يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية ، ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب الله عز وجل ، وهي على طريق السالكين ، ولا يتصور الوصول إلى الله تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب ، وهي حجب من نور بعضها أكبر من بعض ، وأصغر النيرات الكوكب ، فاستعير له لفظه ، وأعظمها الشمس ، وبينهما رتبة القمر ، فلم يزل إبراهيم - عليه السلام - لما رأى ملكوت السماوات حيث قال الله تعالى : [ ص: 477 ] ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) يصل إلى نور بعد نور ، ويتخيل إليه في أول ما كان يلقاه أنه قد وصل ، ثم كان يكشف له أن وراءه أمرا فيترقى إليه ويقول قد وصلت ، فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده ، فقال : ( هذا أكبر ) فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال ( قال لا أحب الآفلين . . . . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات ) . وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب ، وقد يغتر بالحجاب الأول ، وأول الحجب بين الله وبين العبد هو نفسه ، فإنه أيضا أمر رباني ، وهو نور من أنوار الله تعالى ، أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى إنه ليتسع لجملة العالم ويحيط به ، وتتجلى فيه صورة الكل ، وعند ذلك يشرق نوره إشراقا عظيما ، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه ، وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له ، فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه ، وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول : أنا الحق ، فإن لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به ، ووقف عليه وهلك ، وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية ، ولم يصل بعد إلى القمر فضلا عن الشمس فهو مغرور . وهذا محل الالتباس ، إذ المتجلي يلتبس بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة بالمرآة ، فيظن أنه لون المرآة ، وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل :
رق الزجاج وراقت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر
وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح ، فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه ، كمن رأى كوكبا في مرآة أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء ، فيمد يده إليه ليأخذه وهو مغرور " . اهـ .