( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ) هذه الآية المنزلة مرشدة إلى نوع آخر من آيات التكوين وهو إيجاد الماء ، وإنزاله من السماء ، وجعله سببا للنبات ، وجعل النبات المسبب عنه أنواعا كثيرة ، [ ص: 535 ] مشتبهة وغير متشابهة ، وبذلك يلتقي آخر هذا السياق بأوله . أي وهو الذي أنزل من السحاب ماء ، فأخرجنا بسبب هذا الماء الواحد نبات كل شيء من أصناف هذا النامي الذي يخرج من الأرض ، فأخرجنا منه أي من النبات خضرا أي شيئا غضا أخضر بالخلقة لا بالصناعة ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحب كساق النجم وأغصان الشجر ، نخرج منه أي من هذا الأخضر المتشعب من النبات آنا بعد آن حبا متراكبا بعضه فوق بعض وهو السنبل - فهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له من النبات ونتاجه ، وعطف عليه حال نظيره من الشجر فقال ( ومن النخل من طلعها قنوان دانية ) ، النخل الشجر الذي ينتج التمر ، يستعمل لفظه في المفرد والجمع ، وجمعه نخيل . و ( من طلعها ) بدل مما قبله ، وطلعها أول ما يطلع أي يظهر من زهرها الذي يكون منه ثمرها ، وقبل أن ينشق عنه كافوره أي وعاؤه ، وما ينشق عنه الكافور من الطلع يسمى الغريض والإغريض ، والقنوان جمع قنو - بالكسر - وهو العذق الذي يكون فيه الثمر ، ومثله في وزنه واستواء مثناه ، وجمعه الصنو والصنوان وهو ما يخرج من أصل الشجرة من الفروع . والقنوان من النخل كالعناقيد من العنب والسنابل من القمح ، والمعنى أنه يخرج من طلع النخل قنوان دانية القطوف سهلة التناول ، أو بعضها دان قريب من بعض لكثرة حملها .
( وجنات من أعناب ) قرأ الجمهور " جنات " بالنصب وتقدير الكلام : ونخرج منه - أي من ذلك الخضر - جنات من أعناب . وقرأها أبو بكر عن عاصم بالرفع وهو المروي عن علي المرتضى وابن مسعود وغيرهم . وتقدير الكلام : ولكم جنات من أعناب - أو - وهناك جنات - أو - ومن الكرم جنات إلخ . وسنبين حكمة اختلاف الإعراب بعد والأعمش
( والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ) أي وأخص من نبات كل شيء الزيتون والرمان حال كونه مشتبها في بعض الصفات ، غير متشابه في بعض آخر . قيل : إن هذه الحال من الرمان وحده فإنه أنواع تشتبه في شكل الورق والثمر وتختلف في لون الثمر وطعمه ، فمنه الحلو والحامض والمز . وقيل : إن الحال من مجموع الزيتون والرمان ، أي مشتبها وغير متشابه وذلك ظاهر مما قبله . وصرحوا بأن المشتبه والمتشابه هنا بمعنى ، إذ يقال : اشتبه الأمران وتشابها كما يقال استويا وتساويا . وقد قرئ في الشواذ " متشابها وغير متشابه " وهو ما أجمعوا عليه في آية ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات ) 141 إلخ . وستأتي ، والحق أن بين الصيغتين فرقا فمعنى اشتبها التبس أحدهما بالآخر من شدة الشبه بينهما ، ومعنى تشابها أشبه أحدهما الآخر ولو في بعض الوجوه والصفات ، فهذا أعم مما قبله . ولا شك في أن بعض ما ذكر يتشابه ولا يشتبه ، وبعضه يتشابه حتى يشتبه ، حتى على البستاني الماهر ، [ ص: 536 ] كما شاهدنا ذلك واختبرناه في بعض أنواع الرمان الحلو مع الحامض ، وهذا من دقة تعبير التنزيل في تحديد الحقائق .
( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ) أي انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمر ما ذكر إذا هو تلبس واتصف بالإثمار ، وإلى ينعه عندما يينع ، أي يبدوا صلاحه وينضج ، وتأملوا صفاته في كل من الحالين وما بينهما ، يظهر لكم من لطف الله وتدبيره ، وحكمته في تقديره ، ما يدل أوضح الدلالة على وجوب توحيده ( إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) أي في ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه ، والنظر فيه دلائل عظيمة أو كثيرة للمستعدين للاستدلال من المؤمنين بالفعل والمستعدين للإيمان ، وأما غيرهم فإن نظرهم كنظر الطفل وإن كانوا من العالمين بأسرار عالم النبات ، والغواصين على ما فيه من المحاسن والنظام ، لا يتجاوز هذه الظواهر ، ولا يعبرها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق ، ومن إثبات صفاته التي تتجلى فيها ، ووحدته التي ينتهي النظام إليها ، وإن كانوا يعلمون أن وحدة النظام في الأشياء المختلفة ، لا يمكن أن تصدر عن إرادات متعددة .
ومن في الآيات ، واختلاف الإعراب والترتيب بين المتناسبات ، أن هذا السياق بدئ بفلق الحب والنوى وإخراج الحي من الميت وعكسه . وقفى عليه بما يناسبه من فلق الإصباح ، وعطف على هذا ما يقابله من معاقبة الليل للنهار ، وأشير إلى فوائدهما وفوائد النيرين ، اللذين هما آيتا هذين الملوين ، وناسب ذكر النيرين التذكير بخلق النجوم ، والمنة بالاهتداء بها والإيماء إلى ما فيها من آيات العلوم ، ثم عطف على هذا النوع من الآيات إنشاؤنا من نفس واحدة فمنها المستقر والمستودع ، وقفى عليه بإنزال الماء ، وجعله سببا لنبات كل شيء من هذه الأحياء ، وكل منهما تفصيل لقوله في الآية الأولى من السياق : ( مباحث البلاغة يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ) وقد لون في تفصيل خلق النبات الخطاب ، وتفنن في طرق الإعراب ; للتنبيه إلى ما فيه من أنواع الألوان ، وتشابه ما فيه من الثمار والأفنان ، فبدئت الآية بضمير الواحد الغائب المفرد تبعا لسياق ما قبلها من هذه الآيات ، وعطف عليه ضمير المتكلم الجمعي بطريق الالتفات . إذ قال : ( فأخرجنا به نبات كل شيء بعد قوله : ( أنزل من السماء ماء ) فحكمة الالتفات أن تلتفت الأذهان إلى ما يعقب ذلك من البيان ، فتتنبه إلى أن هذا الإخراج البديع ، والصنع السنيع ، من فعل الحكيم الخلاق ، لا من فلتات المصادفة والاتفاق ، ولما كان الماء واحدا والنبات جمعا كثيرا ناسب إفراد الفعل الأول وجمع الفعل الآخر ، ومعلوم أن الواحد إذا قال فعلنا أراد إفادة تعظيم نفسه إذا كان مقامه أهلا لذلك كما يقول الملك أو الأمير - حتى في هذا العصر - في أول ما يصدره من نحو نظام أو قانون " أمرنا بما هو آت " ونكتة العدول عن الماضي [ ص: 537 ] إلى المضارع في قوله : ( نخرج منه حبا متراكبا ) تحصل بإرادة استحضار صورته العجيبة في حسنها وانتظامها ، وتنضد سنابلها واتساقها ، وعطف عليه ما يخرجه تعالى من طلع النخل ، من القنوان المشابه لسنابل القمح ، في تنضد ثمره وتراكبها ، ومنافعها وغرائبها ، فإن في كل منهما أفضل غذاء للناس ، وعلف للدواب والأنعام ، وذكر بعده جنات الأعناب ; لأنها أشبه بالنخيل في هذه الأبواب ، فالعناقيد تشبه العراجين في تكونها ، وتراكب حبها وألوان ثمرها ، كما تشبهها في درجات تطورها ، فالحصرم كالبسر ، والعنب كالرطب ، والزبيب كالتمر ، ويخرج من كل منهما عسل وخل وخمر ، ثم ذكر الزيتون والرمان معطوفا على نبات كل شيء أو منصوبا على الاختصاص ، لا على ما قبله من النخيل والأعناب ; لأن ما بينهما من التشابه في الصورة ، محصور في الورق دون الثمرة ، وأما مكانهما من المنفعة والفائدة ، فالأول في الدرجة الثالثة والآخر في الدرجة الرابعة ، ذلك بأن الزيتون وزيته غذاء فقط ولكنه تابع للطعام غير مستقل بالتغذية . والرمان فاكهة وشراب فقط ولكنهما دون فواكه النخيل والأعناب وأشربتهما في المرتبة ، فناسب جعله بعدهما ، والإشارة باختلاف الإعراب إلى رتبة كل منهما ، وبناء على اختلاف المراتب قدم نبات الحب على الجميع ; لأنه الغذاء الأعظم الأعم لأكثر الناس وأكثر أنواع الحيوان الأهلية التي تقوم أكثر مرافقهم ومنافعهم بها ، فسبحان من هذا كلامه .