( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) أي من أنفسهم ، ويتضمن هذا الدعاء لهم بالارتقاء الذي يؤهلهم ويعدهم لظهور النبي منهم ، وقد أجاب الله - تعالى - هذه الدعوة بخاتم النبيين والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في حديث أحمد ( ( إبراهيم وبشارة عيسى ) ) . . . إلخ ، ثم وصف هذا الرسول بقوله : ( أنا دعوة يتلو عليهم آياتك ) الدالة على وحدانيتك وتنزيهك وعظمة شأنك ، والدالة على صدق رسلك إلى خلقك ، فالمراد بالآيات : الآيات الكونية والعقلية ، أو المراد آيات الوحي التي تنزلها عليه فتكون دليلا على صدقه ، ومشتملة على تفصيل آيات الله في خلقه كبراهين التوحيد والتنزيه ودلائل النبوة والبعث . وتلاوتها : ذكرها المرة بعد المرة لترسخ في النفس وتؤثر في القلب .
( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) قال الأستاذ الإمام : فسروا الكتاب بالقرآن ، والحكمة [ ص: 389 ] بالسنة ، والثاني غير مسلم على عمومه ، أما الأول فله وجه ، وعليه يكون المراد بالآيات فيما سبق دلائل العقائد وبراهينها - كما تقدم فيما سبق - دون الوحي وإلا كان مكررا . وفيه وجه ثان : وهو أن المراد بالكتاب مصدر كتب ، يقال : كتب كتابا وكتابة ، وإنما الدعاء لأمة أمية لا بد في إصلاحها وتهذيبها من تعليمها الكتابة ، وقد كانت الأمم المجاورة لها من أهل الكتاب ، فلا يتيسر لها اللحاق بها أو سبقها ، حتى تكون من الكاتبين مثلها ، وأما الحكمة فهي في كل شيء معرفة سره وفائدته ، والمراد بها أسرار الأحكام الدينية والشرائع ومقاصدها ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بسيرته في المسلمين ، وما فيها من الفقه في الدين ، فإن أرادوا من السنة هذا المعنى في تفسير الحكمة فهو مسلم ، وهو الذي كان يفهم من اسمها في الصدر الأول ، وإن أرادوا بالسنة ما يفسرها به أهل الأصول والمحدثون ، فلا تصح على إطلاقها ، فالحكمة مأخوذة من الحكمة - بالتحريك - وهي ما أحاط بحنكي الفرس من اللجام وفيها العذاران ، وفي ذلك معنى ما يضبط به الشيء ، ومن ذلك إحكام الأمر وإتقانه ، وما كل من يروي الأحاديث يحقق له هذا المعنى ، ولكن الذي يتفقه في الدين ويفهم أسراره ومقاصده يصح أن يقال : إنه قد أوتي الحكمة التي قال الله فيها : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ( 2 : 269 ) ولن يكون أحد داخلا في دعوة إبراهيم حتى يقبل تعليم الحكمة من هذا النبي الكريم .
علم إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكفي في إصلاح الأمم وإسعادها ، بل لا بد أن يقرن التعليم بالتربية على الفضائل ، والحمل على الأعمال الصالحة بحسن الأسوة والسياسة ، فقال : ( ويزكيهم ) أي يطهر نفوسهم من الأخلاق الذميمة ، وينزع منها تلك العادات الرديئة ، ويعودها الأعمال الحسنة التي تطبع في النفوس ملكات الخير ، ويبغض إليها القبيحة التي تغريها بالشر ، ثم ختما الدعاء بهذا الثناء ( إنك أنت العزيز الحكيم ) ، العزيز : هو القوي الغالب على أمره فلا ينال بضيم ، ولا يغلب على أمر ، والحكيم : هو الذي يضع الأشياء أحسن موضع ، ويتقن العمل ويحسن الصنع ، والسر في ذكر هذين الوصفين هنا إزالة ما ربما يتعلق بالذهن ، أو يسبق إلى الوهم ، من أن هذه الأمور التي دعي بها للعرب منافية لطبائعهم ، بعيدة من أحوالهم ومعايشهم ، فإنهم جمدوا على بداوتهم ، وألفوا غلظتهم وخشونتهم ، فهم أعداء العلم والحكمة ، خصماء التهذيب والتربية ، لا يخضعون لنظام ، ولا يؤخذون بالأحكام ، ولا استعداد فيهم للمدنية والحضارة ، التي هي أثر تعليم الكتاب والحكمة ، وتزكية أفراد الأمة ، فكان يتوقع أن يقول قائل : من يقدر أن يغير طباع الأمة المعروفة بالخشونة والقسوة ، فيجعلها من أهل العلم والمدنية والحكمة ؟ لولا أن علم أن المدعو والمسئول هو العزيز الذي لا مرد لأمره ، والحكيم الذي لا معقب لحكمه .