( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم    ) . 
علم مما تقدم أن مسألة تحويل القبلة جاءت في معرض الكلام عن معاندة المشركين وأهل الكتاب  للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكان التحويل شبهة من شبهاتهم ، وتقدم أن من لوازم حكم تحويل القبلة إلى البيت الحرام  توجيه قلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه - كما يوجهون إليه وجوههم - لأجل تطهيره من الشرك والآثام ، كما عهد الله إلى أبويهم إبراهيم  وإسماعيل  عليهما السلام ، وإلا كانوا راضين باستقبال الأصنام ، وإن في طي    ( ولأتم نعمتي عليكم    ) ( 2 : 150 ) بشارة بهذا الاستيلاء ، مفيدة للأمل والرجاء ، وقد علم الله المؤمنين بعد هذه البشارة ما يستعينون به على الوصول إليها هي وسائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة ، وأشعرهم بما يلاقون   [ ص: 35 ] في سبيل الحق من المصائب والشدائد ، فكان من المناسب بعد هذا أن يذكر شيئا يؤكد تلك البشارة ويقوي ذلك الأمل ، فذكر شعيرة من شعائر الحج هي السعي بين الصفا  والمروة  ، فكان ذكرها تصريحا ضمنيا بأن سيأخذون مكة  ويقيمون مناسك إبراهيم  فيها ، وتتم بذلك لهم النعمة والهداية ، وهو قوله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما     ) فهذه الآية ليست منقطعة عن السياق السابق لإفادة حكم جديد لا علاقة له بما قبله كما توهم ; بل هي من تتمة الموضوع ومرتبطة به أشد الارتباط ، من حيث هي تأكيد للبشارة ، ومن حيث إن الحكم الذي فيها من مناسك الحج التي كان عليها إبراهيم  الذي أحيا النبي - صلى الله عليه وسلم - ملته وجعلت الصلاة إلى قبلته ; كأنه قال : لا تلوينكم قوة المشركين في مكة  ، وكثرة الأصنام على الكعبة  والصفا  والمروة  عن القصد إلى تطهير البيت الحرام  ، وإحياء تلك الشعائر العظام ، كما لا يلوينكم عن استقبال البيت  تقول أهل الكتاب  والمشركين ، ولا زلزال مرضى القلوب من المنافقين ، بل ثقوا بوعد الله واستعينوا بالصبر والصلاة . 
الصفا  والمروة    : جبلان ، أو علما جبلين بمكة  والمسافة بينهما 760 ذراعا ونصف ، والصفا  تجاه البيت الحرام  ، وقد علتهما المباني وصار ما بينهما سوقا . والشعيرة والشعار والشعارة تطلق على المكان أو الشيء الذي يشعر بأمر له شأن ، وأطلق على معالم الحج ومواضع النسك وتسمى مشاعر ( ( جمع مشعر ) ) وعلى العمل الاجتماعي المخصوص الذي هو عبادة ونسك ، ففي آية أخرى ( لا تحلوا شعائر الله    ) ( 5 : 2 ) وهي مناسك الحج ومعالمه ، ومنه إشعار الهدي وهو جرح ما يهدى إلى الحرم  من الإبل في صفحة سنامه ليعلم أنه نسك ، ويشعر البقر أيضا دون الغنم ، ومن شواهده في اللغة شعار الحرب وهو ما يتعارف به الجيش . قال شيخنا : ورمى رجل جمرة فأصابت جبهة عمر  رضي الله عنه فقال رجل : شعرت جبهة أمير المؤمنين ، يريد جرحت ، سمي الجرح بذلك ; لأنه علامة ، وقال عند ذلك رجل لهبي : سيقتل أمير المؤمنين ، وكان ما قال   . 
فأما كون المواضع كالصفا  والمروة  من علامات دين الله أو أعلام دينه فظاهر ، وأما كون المناسك والأعمال شعائر وعلامات فوجهه أن القيام بها علامة على الخضوع لله تعالى وعبادته إيمانا وتسليما . فالشعائر إذن لا تطلق إلا على الأعمال المشروعة التي فيها تعبد لله تعالى ; ولذلك غلب استعمال الشعائر في أعمال الحج لأنها تعبدية . قال في الصحاح : الشعائر أعمال   [ ص: 36 ] الحج ، وكل ما جعل علما لطاعة الله عز وجل . وقال  الزجاج  في قوله تعالى : ( لا تحلوا شعائر الله    ) أي جميع متعبداته التي أشعرها الله ; أي : جعلها إعلاما لنا إلخ ، فهو يريد أن الشعائر من أشعره بالشيء : أعلمه به . وقد صرح بذلك ولكنه لا يدل بهذا على معنى التعبد ; إذ قد أعلمنا الله تعالى بالأحكام التي لا تعبد فيها أيضا ، والشعائر لم تطلق في القرآن إلا على مناسك الحج الاجتماعية ، وألحق بها بعضهم ما في معناها من عبادات الإسلام الاجتماعية كالأذان وصلاة الجمعة والعيدين . 
( الأستاذ الإمام ) في الأحكام التي شرعها الله تعالى نوع يسمى بالشعائر ، ومنها ما لا يسمى بذلك كأحكام المعاملات كافة ; لأنها شرعت لمصالح البشر فلها علل وأسباب يسهل على كل إنسان أن يفهمها فهذا أحد أقسام الشرائع ، والقسم الثاني : هو ما تعبدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص ، وكالتوجه فيها إلى مكان مخصوص سماه الله بيته مع أنه من خلقه كسائر العالم . فهذا شيء شرعه الله وتعبدنا به لعلمه بأن فيه مصلحة لنا ولكننا نحن لا نفهم سر ذلك تمام الفهم من كل وجه . 
أقول : وهذا النوع يوقف فيه عند نص ما شرعه الله تعالى ، لا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يقاس عليه ، ولا يؤخذ فيه برأي أحد ولا باجتهاده ، إذ لو أبيح للناس الزيادة في شعائر الدين باجتهادهم  في عموم لفظ أو قياس لأمكن أن تصير شعائر الإسلام أضعاف ما كانت عليه في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يفرق أكثر الناس بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع ، فيكون المسلمون كالنصارى  ، فكل من ابتدع شعيرة أو عبادة في الإسلام فهو ممن يصدق عليهم قوله تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله    ) ( 42 : 21 ) وإنما الاجتهاد في مثل تحري القبلة من العمل التعبدي ، وفي القضاء ، وليراجع القارئ تفسير قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم    ) ( 5 : 101 ) وقوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله    ) ( 9 : 31 ) ومن العبث أن يعمل الإنسان ما لا يعرف له فائدة لقول من هو مثله وهو مستعد لأن يفهم كل ما يفهمه ! ولا يأتي هذا العبث في امتثال أمر الله تعالى لأنا نعتقد أنه برحمته وحكمته لا يشرع لنا إلا ما فيه خيرنا ومصلحتنا ، وأنه بعلمه المحيط بكل شيء يعلم من ذلك ما لا نعلم ، والتجربة تؤيد هذا الاعتقاد فإن الطائعين القائمين بحقوق الدين تصلح أحوالهم في الدنيا ، ويرجى لهم في الآخرة ما يرجى ، وإن لم يفهموا فهما كاملا فائدة كل جزئية من جزئيات العمل ، فمثلهم كما قال  الغزالي  مثل من وثق بالطبيب وجرب دواءه فوجده نافعا ولكنه لا يعرف أية فائدة لكل جزء من أجزائه ونسبته إلى الأجزاء الأخرى ، وحسبه أن يعلم أن هذا الدواء المركب نافع يشفي بإذن الله من المرض . 
 [ ص: 37 ] السعي بين الصفا  والمروة  من هذا النوع التعبدي ، فهو مطلوب بقوله تعالى : ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما    ) حج البيت     : قصده للنسك والإتيان بالمناسك المعروفة هنالك ، وسيأتي تفصيلها في هذا الجزء . والاعتمار : مناسك العمرة  وهي دون مناسك الحج ، فليس في العمرة وقوف بعرفة  ولا مبيت بمزدلفة  ولا رمي جمار في منى    . والجناح بالضم : الميل إلى الإثم ، كجنوح السفينة إلى وحل ترتطم فيه ، والإثم نفسه وأصله من جناح الطائر . ويطوف بتشديد الواو من التطوف وهو تكرار الطواف أو تكلفه . 
والمعنى فليس عليه شيء من جنس الجناح - وهو الميل والانحراف عن جادة النسك - في التطوف بهما ، وهذا التطوف  هو الذي عرف في الاصطلاح بالسعي بين الصفا  والمروة  وفسرته السنة بالعمل ، وهو من مناسك الحج بالإجماع والعمل المتواتر ، وإذا كان مشروعا فسواء كان ركنا كما يقول مالك   والشافعي  وغيرهما ، أو واجبا كما يقول الحنفية ، أو مندوبا كما روي عن أحمد    . 
وقالوا في حكمة التعبير عنه بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح : إنه للإشارة إلى تخطئة المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا  والمروة  من الشعائر ، وأن السعي بينهما من مناسك إبراهيم  ، فهو لا ينافي الطلب جزما . وكذلك قوله تعالى : ( ومن تطوع خيرا    ) في هذا التطوف وغيره أو كرر الحج أو العمرة فزاد على الفريضة ; أي : تحمله طوعا - كما قال الراغب    - فإن التطوع في اللغة : الإتيان بما في الطوع أو بالطاعة أو تكلفها أو الإكثار منها ، وأطلق على التبرع بالخير ; لأنه طوع لا كره ولا إكراه فيه ، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي : ( ( إلا أن تطوع ) ) أي تزيد على الفريضة ( فإن الله شاكر عليم    ) أي : فإن الله يثيبه ; لأنه شاكر يجزي على الإحسان ، عليم بمن يستحق الجزاء . 
وروى  البخاري  عن  ابن عباس  ما يدل على أن للسعي بين الصفا  والمروة  أصلا من ذكرى نشأة الدين الأولى بمكة  في عهد إبراهيم  وإسماعيل   كغيره من شعائر الله ؟ وخلاصته أنه لما كان بين إبراهيم    - صلى الله عليه وسلم - وامرأته ( سارة    ) ما كان ( من حملها إياه على طرد سريته هاجر  مع طفلها إسماعيل  وهو مذكور في الفصل 21 من سفر التكوين ) خرج بهما إلى برية فاران ( أي مكة    ) فوضعهما في مكان زمزم  تحت دوحة ولم يكن هنالك سكان ولا ماء ، ووضع عندها جرابا فيه تمر - وفي سفر التكوين أنه زودها بخبز - وسقاء فيه ماء ثم رجع فقالت له : إلى من تتركنا ؟ قال : ( ( إلى الله ) ) قالت : رضيت بالله . وهنالك دعا إبراهيم  بما حكاه الله عنه في سورته : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع    ) إلى قوله -   [ ص: 38 ]   ( يشكرون ) ( 14 : 37 ) فلما نفد الماء عطشت وجف لبنها وعطش ولدها فجعل يتلوى وينشغ ( يشهق للموت ) فكانت تذهب فتصعد الصفا  تنظر هل ترى أحدا فلم تحس أحدا ، ثم تذهب فتصعد المروة  فلم تر أحدا ، ثم ترجع إلى ولدها فتراه ينشغ ، فعلت ذلك سبعة أشواط ، وبعد الأخير وجدت عنده صوتا فقالت : أغث إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك جبريل  عند زمزم  فغمز بعقبه الأرض فانبثق الماء فجعلت تشرب ويدر لبنها على صبيها ، ومر ناس من جرهم بالوادي فإذا هم بطير عائفة - أي تخوم على الماء - فاهتدوا إليه وأقاموا عنده ونشأ إسماعيل  معهم . قال  ابن عباس  لما ذكر سعيها بين الصفا  والمروة    : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( فذلك سعي الناس بينهما ) )   . 
( الأستاذ الإمام ) وصف الباري تعالى بالشاكر  لا يظهر على حقيقته فلا بد من حمله على المجاز ، فالشكر في اللغة : مقابلة النعمة والإحسان بالثناء والعرفان ، وشكر الناس لله في اصطلاح الشرع    : عبارة عن صرف نعمه فيما خلقت لأجله ، وكلاهما لا يظهر بالنسبة إلى الله تعالى ، إذ لا يمكن أن يكون لأحد عنده يد أو يناله من أحد نعمة يشكرها له بهذا المعنى . 
فالمعنى إذن أن الله تعالى قادر على إثابة المحسنين ، وأنه لا يضيع أجر العاملين ، فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكرا ، وسمى الله تعالى نفسه شاكرا . وأزيد على قول الأستاذ : أن الله تعالى وعد الشاكرين لنعمه بالمزيد منها  ، فسمي هذا شكرا من باب المشاكلة . 
والنكتة في اختيار هذا التعبير تعليمنا الأدب ، فقد علمنا سبحانه وتعالى بهذا أدبا من أكمل الآداب بما سمى إحسانه وإنعامه على العاملين شكرا لهم مع أن علمهم لا ينفعه ولا يدفع عنه ضرا ، فيكون إنعاما عليه ويدا عنده ، وإنما منفعته لهم ، فهو في الحقيقة من نعمه عليهم إذ هداهم إليه وأقدرهم عليه ، فهل يليق بمن يفهم هذا الخطاب الأعلى أن يرى نعم الله عليه لا تعد ولا تحصى وهو لا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما سيقت لأجله ؟ ثم هل يليق به أن يرى بعض الناس يسدي إليه معروفا ثم لا يشكره له ولا يكافئه عليه ، وإن كان هو فوق صاحب المعروف رتبة وأعلى منه طبقة ؟ فكيف وقد سمى الله - تعالى جده وجل ثناؤه - إنعامه على من يحسنون إلى أنفسهم وإلى الناس شكرا ، والله الخالق وهم المخلوقون ، وهو الغني الحميد وهم الفقراء المعوزون ؟ . 
شكر النعمة والمكافأة على المعروف  من أركان العمران ، وترك الشكر والمكافأة مفسدة لا تضاهيها مفسدة ; إذ هي مدعاة ترك المعروف كما أن الشكر مدعاة المزيد ; ولذلك أوجب الله تعالى علينا شكره ، وجعل في ذلك مصلحتنا ومنفعتنا ; لأن كفران نعمه بإهمالها   [ ص: 39 ] أو بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله أو بعدم ملاحظة أنها من فضله وكرمه تعالى ، كل ذلك من أسباب الشقاء والبلاء . وأما تركنا شكر الناس وتقدير أعمالهم قدرها سواء كان عملهم النافع موجها إلينا أو إلى غيرنا من الخلق ، فهو جناية منا على الناس وعلى أنفسنا ; لأن صانع المعروف إذا لم يلق إلا الكفران فإن الناس يتركون عمل المعروف في الغالب ، فنحرم منه ونقع مع الأكثرين في ضده فنكون من الخاسرين ، وإنما قلنا ( ( في الغالب ) ) لأن في الناس من يصنع المعروف ويسعى في الخير رغبة في الخير والمعروف وطلبا للكمال ، ولكن أصحاب هذه النفوس الكبيرة والأخلاق العالية التي لا ينظر ذووها إلى مقابلة الناس لأعمالهم بالشكر ، ولا يصدهم عن الصنيعة جهل الناس بقيمة صنيعتهم ، قلما تلد القرون واحدا منهم ، ثم إن كفران النعم لا بد أن يؤثر في نفس من عساه يوجد منهم فإن لم يكن أثره ترك السعي والعمل ، كان الفتور والوني فيه ، وإذا لم يدع المعروف فاعله لكفران الناس لسعيه تركه لليأس من فائدته ، أو للحذر من سوء مغبته ; إذ الحاسدون من الأشرار يسعون دائما في إيذاء الأخيار ، كذلك الشكر يؤثر في إنهاض همة أعلياء الهمة من المخلصين في أعمالهم الذين لا يريدون عليها جزاء ولا شكورا ; ذلك أنهم يرون عملهم الخير نافعا فيزيدون منه ، كما أنهم إذا رأوه ضائعا يكفون عنه . ( قال الأستاذ الإمام ) بعد بيان حسن أثر الشكر في المخلصين : ويروون في هذا حديثا ارتقى به بعضهم إلى درجة الحسن وهو ( ( عجبت لمحمد  كيف يسمن من أذنيه   ) ) أي كان إذا ذكرت أعماله الشريفة وسعيه في الخير المطلق يسر ويسمن ، هذا وهو - صلى الله عليه وسلم - أخلص المخلصين الفاني في الله تعالى لا يبتغي بعمله غير مرضاته ، فكيف لا يكون غيره أجدر بذلك ممن إذا سلم من الانبعاث إلى الخير بباعث الشكر والثناء فلا يكاد يسلم من حب الثناء لذاته فضلا عن مقت الكفران والكنود 
				
						
						
