( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) .
نطقت الآيات السابقة بأن الذين يكتمون ما أنزله الله من البينات والهدى ملعونون لا ترجى لهم رحمة الله تعالى إلا أن يتوبوا ، فإن هم ماتوا - على كتمانهم وما يستلزمه كفرهم من الأعمال - كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم من عذابها شيء ; إذ لا يقبل منهم افتداء ، ولا تنفعهم شفاعة الشفعاء ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) ( 40 : 18 ) لأن اللعنة تعمهم في الآخرة من جميع الملائكة والناس بحيث يظهر للعوالم أنهم لا يستحقون الرحمة ، حتى إن المرءوسين يتبرءون من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم في الضلال ويتخذون كلامهم دينا من دون كتاب الله كما سيأتي ، فناسب بعد هذا أن يبين الله تعالى أن شارع الدين ومحق الحق هو واحد لا يعبد غيره ، ولا تكتم هدايته ، ولا يجعل كلام البشر معيارا على كلامه ، وهو مفيض الرحمة والإحسان ; إذ الرحمة من صفاته الكاملة [ ص: 45 ] اللازمة ، ليتذكر أولئك الضالون الكاتمون لبينات الله ، المؤثرون عليها آراء رؤسائهم وأئمتهم ثقة بهم ، واعتمادا على شفاعتهم ، أنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا ، ويعلموا وجه خطئهم في كتمان الحق ومعاداة أهله عنادا من الرؤساء ، وتقليدا من المرءوسين . فقال : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ) أي : وإلهكم الحق الحقيق بالعبادة إله واحد لا إله مستحق لها إلا هو ، فلا تشركوا به أحدا . : ( أحدهما ) يتعلق بالألوهية والعبادة ، وهو أن يعتقد المرء أن في الخلق من يشاركه تعالى أو يعينه في أفعاله ، أو يحمله على بعضها ويصده عن بعض بشفاعته عنده لأجل قربه منه ، كما يكون من بطانة الملوك المستبدين وحواشيهم وحجابهم وأعوانهم ، فهو يتوجه إلى هذا المؤثر عند الله بزعمه عندما يتوجه إليه تعالى في الدعاء فيدعوه معه ، وقد يدعوه من دونه عند شدة الحاجة لكشف ضر أو جلب نفع أعيته أسبابهما وهذا مخ العبادة . والشرك به نوعان
( وثانيهما ) يتعلق بالربوبية وهو إسناد الخلق والتدبير إلى غيره معه ، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره ; أي : غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله بحجة أن من يأخذ عنهم الدين من غير بيان الوحي أعلم بمراد الله فيترك الأخذ من الكتاب لرأيهم وقولهم ، وهو المراد بقوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، وظاهر أن ، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه ، كما زاد الواجب على العلماء بالدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه أهل الكتب المنزلة كلهم عبادات وأحكاما كثيرة زائدة على الوحي أو مخالفة له يتأولونه لأجلها دون العكس ، وإذا كان الله تعالى واحدا لا إله إلا هو فلا ينبغي أن يشرك معه غيره فهو كذلك ( الرحمن الرحيم ) أي : الكامل الرحمة فلا ينبغي أن يعرض العبد عن أسباب رحمته اعتمادا على رحمة سواه ممن يظن أنهم مقربون عنده ، فحسب المؤمن من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، أن يستغني بالتصدي لها عن رجاء سواها وإلا كان من الخائبين .
قال الأستاذ الإمام : نبههم سبحانه وتعالى إلى أن المنافع التي يرقبونها من شركهم إنما هي بيده الكريمة وحده ، كأنه يقول : إذا أنتم تركتم ما أنتم فيه لأجله تعالى فهو بتفرده بالألوهية يكفيكم كل ضرر تخافونه ، ويعطيكم برحمته الواسعة كل ما ترجونه ، فإن بيده ملكوت كل شيء ، وكل ما تعتمدون عليه من دونه فليس محلا للاعتماد ; بل اعتمادكم عليه من قبيل الشرك فيجب أن تطرحوه جانبا ، وتعتقدوا أن الإله الذي بيده أزمة المنافع والقادر على دفع المضار وإيقاعها هو واحد لا سلطان لأحد على إرادته ، ولا مبدل لكلمته ، ولا أوسع من رحمته ، وإنما أكد أمر الوحدة هذا التأكيد تحذيرا من طرق الشرك الخفية على أنها أساس [ ص: 46 ] الدين وأصله ، وقد فصلنا معاني التوحيد والشرك واسمي : الرحمن الرحيم في تفسير الفاتحة .
أرأيت هذا الاتصال المحكم بين الآية وما قبلها ؟ إن بعض المفسرين قد قطع عراه وفصمها ، وجعل الآية جوابا لقوم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - انسب لنا ربك ، قاله ( الجلال ) .
ويقول الأستاذ الإمام : إن سبب النزول إنما يحتاج إليه في آيات الأحكام ; لأن معرفة الوقائع والحوادث التي نزل فيها الحكم تعين على فهمه وفقه حكمته وسره ، ومثلها ما فيه إشارة إلى بعض الوقائع كغزوة بدر والنصر فيها ، ومصيبة المؤمنين في أحد ، وأما الآيات المقررة للتوحيد - وهو المقصود الأول من الدين - فلا حاجة إلى التماس أسباب لنزولها بل هي لا تتوقف على انتظار السؤال ، وإنما كان يبين عند كل مناسبة ، وما عساه يكون قد قارن نزولها من حادثة أو سؤال مثل هذا الذي ذكر آنفا فهو إن صح رواية لا يزيدنا بيانا في فهم الآية ، ولا يصح أن يجعل سببا لنزولها لا سيما بعد الذي علم من اتصالها بما قبلها كما يليق ببلاغة القرآن .
ومثل هذا السبب يجعل القرآن مبددا متفرقا لا ترتبط أجزاؤه ولا تتصل أنحاؤه ، ومثله ما قالوه في سبب الآية التي بعد هذه الآية ، فإنها جاءت على سنة القرآن من وصل الدليل بالدعوى ، ولكنهم رووا في سببها روايات منها أن آية ( وإلهكم إله واحد ) نزلت بالمدينة ثم سمع بها مشركو مكة فقالوا ما قالوا ، وعجبوا كيف يسع الخلق إله واحد وطلبوا الدليل على ذلك ، كأنهم لم يكونوا قد سمعوا عليه دليلا ، وكأن هذه الدعوى لم تكن طرأت على أذهانهم ، ولا طرقت أبواب مسامعهم . على أن النبي ( ص ) كان قد أقام فيهم يدعوهم إلى هذا التوحيد عشر سنين ونيفا ، وسبق لهم التعجب منه ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) ( 38 : 5 ) ومعظم ما نزل بمكة آيات وبراهين عليه ، فكيف نسلم أن ما نراه في التنزيل المدني من آيتين متصلتين إحداهما في التوحيد والأخرى في دليله قد كان من الفصل بينهما أن نزل الدليل بعد المدلول بزمن طويل وسبب متأخر ؟
قال الأستاذ الإمام بعد بيان اتصال الآية بما قبلها وتقرير معناها : ومن هنا يظهر أنها لا يصح أن تكون جوابا للذين قالوا : انسب لنا ربك ، أو صف لنا ربك ; لأن هذا السؤال إنما يصدر عمن لا يعرف شيئا من صفات هذا الرب العظيم ، أو ممن يبغي أن يعرف مقدار علم المسئول بهذه الصفات ، ويجب أن يكون جوابه بذكر جميع ما يجب اعتقاده من التنزيه والصفات الثبوتية ، ولم يذكر في الآية إلا الوحدة والرحمة ، وترك ذكر العلم والحكمة والإرادة والقدرة ، وهي صفات لا تعقل الألوهية إلا بها ، وسببه أن أولئك الكفار لم يكونوا يكتمونها ولا يشركون مع الله أحدا فيها ، وإنما ، ويستلزم هذا عدم اكتفائهم برحمته . وقال شيخنا في تعليله : إن الاكتفاء بذكر الوحدة والرحمة على الوجه الذي قررناه في تفسير الآية [ ص: 47 ] ظاهر لا تطلب البلاغة غيره ; لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته . وذكر الرحمة بعدها يرغبهم في التوبة ويحول دون يأسهم من فضل الله بعد إيئاسهم ممن اتخذوهم شفعاء ووسطاء عنده ، فيطابق ذلك قوله تعالى في الآية التي ذكر فيها الكتمان : ( إلا الذين تابوا ) ( 2 : 160 ) إلخ . أشركوا في الألوهية بعبادة غير الله تعالى بالدعاء والنذور والقرابين