( إن كنتم إياه تعبدون ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم )
بين الله تعالى حال الذين يتخذون الأنداد من دونه وأشار إلى أن سبب ذلك حب الحطام ، وارتباط مصالح المرءوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه ، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا مما في الأرض إذ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها بشرط أن تكون حلالا طيبا ، وبين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم ; لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم ، ثم وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة ; لأنهم أحق بالفهم ، وأجدر بالعلم وأحرى بالاهتداء فقال :
( ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) الأمر هنا للوجوب لا للإباحة ، والطيبات ما طاب كسبه من الحلال ، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تدينا لتعذيب النفس ، وهذا تنبيه بعد ما تقدم إلى عدم الالتفات إلى أولئك الحمقى الذين أبيحت لهم خيرات الأرض [ ص: 78 ] فطفقوا يحلون بعضها ويحرمون بعضا بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم ، وأعطوا ميزانا يميزون به الخواطر الشيطانية الضارة من غيرها ، فما أقاموا به ولا له وزنا ، وبين لهم الحرام من الحلال لكنهم نفضوا أيديهم من عز الاستقلال بالاستدلال ، وهون عليهم التقليد ذل القيود والأغلال ، فهو يقول : كلوا من هذه الطيبات ولا تضيقوا على أنفسكم مثلهم ( واشكروا لله ) الذي خلقها لكم وسهل عليكم أسبابها بأن تتبعوا سنته الحكيمة في طلب هذه الطيبات واستخراجها ، وفي استعمالها فيما خلقت لأجله ، وبالثناء عليه جل جلاله وعم نواله ، واعتقاد أن هذه الطيبات من فضله وإحسانه ليس لمن اتخذوا أندادا له تأثير فيها ، ولذلك قال : ( إن كنتم إياه تعبدون ) أي : إن كنتم تخصونه بالعبادة وتؤمنون بانفراده بالسلطة والتدبير فاشكروا له خلق هذه النعم وإباحتها لكم ، ولا تجعلوا له أندادا تطلبون منهم الرزق أو ترجعون إليهم بالتحليل والتحريم ; فإن ذلك له وحده وإلا كنتم مشركين به كافرين لنعمه ، كالذين من قبلكم جهلوا معنى عبادة الله تعالى فاتخذوا بينهم وبينه وسطاء في طلب الرزق ، ورؤساء يشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه ، ويحلون لهم ويحرمون عليهم ما لم يشرعه لهم . . وليس من الطيبات ما يأخذه شيوخ الطريق من مريديهم بل هو من الخبائث والسحت . ومن الشكر له تعالى استعمال القوى التي غذيت بتلك الطيبات في نفع أنفسكم وأمتكم وجنسكم
الأستاذ الإمام : لا يفهم هذه الآية حق فهمها إلا من كان عارفا بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله ، فإن المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقا وأصنافا ، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافا كالبحيرة والسائبة عند العرب ، وكبعض الحيوانات عند غيرهم ، وكان المذهب الشائع في النصارى أن أقرب ما يتقرب به إلى الله تعالى تعذيب النفس واحتقارها وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة ، واحتقار الجسد ولوازمه ، واعتقاد أن لا حياة للروح إلا بذلك ، وأن الله تعالى لا يرضى منا إلا إحياء الروح ، وكان الحرمان من الطيبات على أنواع ، منها ما هو خاص بالقديسين ، أو بالرهبان والقسيسين ، ومنها ما هو عام كأنواع الصوم الكثيرة كصوم العذراء وصوم القديسين ، وفي بعضها يحرمون اللحم والسمن دون السمك ، وفي بعضها يحرمون السمك واللبن والبيض أيضا ، وكل هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء وليس لها أثر ينقل عن التوراة أو عن المسيح عليه السلام ، وبذلك كانوا أندادا ، ونزل في شأنهم ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) وتقدم بيان ذلك وقد سرت إليهم هذه الأحكام بالوراثة عن آبائهم الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات ، ويرون أن التقرب إلى الله محصور في تعذيب النفس وترك [ ص: 79 ] حظوظ الجسد ، إذ رأوا في دينهم وفي سيرة المسيح وحوارييه من طلب المبالغة في الزهد ما يؤيدها .
وقد تعطي الجسد حقه والروح حقها كما تقدم في تفسير ( تفضل الله تعالى على هذه الأمة بجعلها أمة وسطا وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا ، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية ، فلم نكن جثمانيين محضا كالأنعام ، ولا روحانيين خلصا كالملائكة ، وإنما جعلنا أناسي كملة بهذه الشريعة المعتدلة ، فله الحمد والشكر والثناء الحسن .
ظهر بهذا التقرير أن الآية متصلة بما قبلها ومتممة له . وقال بعض المفسرين - وله وجه فيما قال - : إن ما تقدم من أول السورة إلى ما قبل هذه الآية كله في القرآن والرسالة وأحوال المنكرين للداعي ، وما جاء فيها من الأحكام فإنما جاء بطريق العرض والاستطراد ، وهذه الآية ابتداء قسم جديد من الكلام ، وهو سرد الأحكام ; فإنه يذكر بعدها أحكام محرمات الطعام وأحكام الصوم والحج والقصاص والوصية والنكاح والطلاق والرجعة والعدة والإيلاء والرضاع وغير ذلك ، وينتهي هذا القسم بما قبل قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ) ( 2 : 243 ) الآية ، ولا غرو فإن بين كل قسم وآخر في القرآن من التناسب مثل ما بين كل آية وأخرى في القسم الواحد ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) ( 11 : 1 ) .
بعد ذكر إباحة الطيبات ذكر المحرمات فقال تبارك اسمه : ( إنما حرم عليكم الميتة ) هذا حصر بصيغة ( ( إنما ) ) الدالة على ما سبق الإعلام به وهو آية سورة الأنعام التي ورد فيها حصر التحريم في هذه الأربعة بصيغة الإثبات بعد النفي ، وإنما حرم الميتة لما في الطباع السليمة من استقذارها ، ولما يتوقع من ضررها ، فإنها إما أن تكون ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة ، وكلاهما لا يؤمن من ضرره ; لأن المرض قد يكون معديا والموت الفجائي يقتضي بقاء بعض الأشياء الضارة في الجسم كالكربون الذي يكون سبب الاختناق ، هذا ما قاله الأستاذ الإمام . ويزاد عليه عدم القصد إلى إماتتها بعمل الإنسان ، وهو سبب الفرق بين المخنوقة والمنخنقة التي هي في معنى الميتة حتف أنفها ; ولذلك كان في معنى الميتة كل ما زالت حياته بغير قصد الزكاة كالمنخنقة والموقوذة - إلى آخر ما ذكر في آية المائدة . ( والدم ) أي : المسفوح كما في آية الأنعام ، فإنه قذر لا طيب ، وضار كالميتة ( لمحرمات الطعام من الحيوان ولحم الخنزير ) فإنه قذر ; لأن أشهى غذاء الخنزير إليه القاذورات والنجاسات ، وهو ضار [ ص: 80 ] في جميع الأقاليم ولا سيما الحارة كما ثبت بالتجربة ، وأكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة ، ويقال إن له تأثيرا سيئا في العفة والغيرة ( وما أهل لغير الله به ) وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد . والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد ، لأنه من أعمال الوثنية فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه تقرب عبادة ، وذلك من الإشراك والاعتماد على غير الله تعالى .
وقد ذكر الفقهاء أن كل فهو محرم ، وعد منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيرا من قولهم عند الذبح - لا سيما ذبح المنذور - بسم الله ، الله أكبر ، يا سيد ، يدعون ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله السيد البدوي أن يلتفت إليهم ويتقبل النذر ويقضي حاجة صاحبه ، ( قال ) وكيفما أولته فهو محرم ، ومثل ذكر السيد ذكر الرسول أو المسيح ; إذ لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها ، فهي تذبح وتؤكل باسمه لا يشاركه في ذلك سواه ، ولا يتقرب بها إلى من عداه ممن لم يخلق ولم ينعم ولم يبح ذلك ; لأنه غير واضع للدين ( فمن اضطر ) إلى الأكل مما ذكر بأن لم يجد ما يسد به رمقه سواه ( غير باغ ) له أي : غير طالب له ، راغب فيه لذاته ( ولا عاد ) متجاوز قدر الضرورة ( فلا إثم عليه ) لأن ، بل الضرر في ترك الأكل محقق ، وهو في فعله مظنون ، وربما كانت شدة الحاجة إلى الأكل مع الاكتفاء بسد الرمق مانعة من الضرر ، وأما ما أهل به لغير الله فمن أكل منه مضطرا فهو لا يقصد إجازة عمل الوثنية ، ولا استحسانه ( الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير إن الله غفور رحيم ) إذ حرم على عباده الضار ، وجعل الضرورات بقدرها ، لينتفي الحرج والعسر عنهم ، ووكل تحديدها إلى اجتهادهم ، فهو يغفر لهم خطأهم فيه لتعذر ضبطه .
وفسر الجلال كلمة ( باغ ) بالخارج على المسلمين و ( عاد ) بالمعتدي عليهم بقطع الطريق ( قال ) : ويلحق بهم كل عاص بسفره كالآبق والمكاس ، وعليه . الشافعي
قال الأستاذ الإمام : ولا خلاف بين المسلمين في أن العاصي كغيره يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة ، ويجب عليه توقي الضرر ، ويجب علينا دفعه عنه إن استطعنا . فكيف لا تتناوله إباحة الرخص ؟ ! ثم إن المناسب للسياق أن تحدد الضرورة التي تجيز أكل المحرم ، وتفسير الباغي والعادي بما ذكرنا هو المحدد لها ، وهو موافق للغة كقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف : ( ما نبغي ) وفي الحديث الصحيح ( ( ) ) وفي التنزيل ( يا باغي الخير هلم ولا تعد عيناك عنهم ) ( 18 : 28 ) أي : لا تتجاوزهم إلى غيرهم ، فالكلام في تحديد الضرورة وتمام بيان حكم ما يحل ويحرم من الأكل ، لا في السياسة وعقوبة الخارجين على الدولة والمؤذين للأمة . وإنما كان هذا التحديد لازما لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا هو وكل إليهم بلا حد ولا قيد ، فيزعم هذا أنه مضطر وليس [ ص: 81 ] بمضطر ، ويذهب ذلك بشهوته إلى ما وراء حد الضرورة ، فعلم من قوله : ( غير باغ ولا عاد ) كيف تقدر الضرورة بقدرها ، والأحكام عامة يخاطب بها كل مكلف لا يصح استثناء أحد إلا بنص صريح من الشارع ، ويذكر بعض المفسرين في هذا المقام مسائل خلافية في الميتة كحل الانتفاع بجلدها وغير ذلك مما ليس يؤكل ، وقد قلنا : إننا لا نتعرض في بيان القرآن إلى المسائل الخلافية التي لا تدل عليها عبارته ، إذ يجب أن يبقى دائما فوق كل خلاف .
هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس ، واقتصرت عليه في الطبعة الأولى وقرأه هو فيها ، وأقول الآن : إنه رحمه الله كانت خطته الغالبة فيه ترك ذكر المسائل الخلافية التي لا يدل عليها القرآن ، وهذا غير الخلاف في مدلول عباراته كما هنا ، وربما يكون ذكر الخلاف وسيلة إلى بيان كونه فوق كل خلاف .
وقد زاد المفسرون على هذه المحرمات - تبعا لفقهائهم - محرمات أخرى استدلوا عليها بأحاديث آحادية في دلالتها نظر ، وبعموم تحريم الخبائث وهي معارضة بما في هذه الآية وغيرها من الحصر ، وقد حققت هذه المسألة في تفسير ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم ) ( 6 : 145 ) إلخ . وفندت ما قيل في تأويلها بما ظهر به أن القرآن فوق كل خلاف .
ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر ( غفور ) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة ، فقد يقال : إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية ، وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات . والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جدا ، ومرجعه إلى اجتهاد المضطر ، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده ، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره ، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود . والله أعلم .