ثم قال فيهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=175nindex.php?page=treesubj&link=28973_32428_27962أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) أي : أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله إلخ ، أو المجزيون عليه بما ذكرهم الذين اشتروا الضلالة بالهدى في الدنيا ، فأما الهدى فهو كتاب الله وشرعه (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) ( 2 : 2 ) وأما الضلالة : فهي العماية التي لا يهتدي بها الإنسان لمقصده ، وتكون باتباع الهوى وآراء الناس في الدين ، وليس لأحد أن يقول في الدين برأيه - وهذه الآراء لا ضابط لها ولا حد ، فأهلها في خلاف وشقاق دائم كما سيأتي - فمن أجاز لنفسه
nindex.php?page=treesubj&link=20366_32210_20350اتباع أقوال الناس في الاعتقاد والعبادة وأحكام الحلال والحرام فقد ترك الهدى الواضح المبين الذي لا خلاف فيه ، وصار إلى تيه من الآراء مشتبه الأعلام ، يضل به الفهم ، ولا يهتدي فيه الوهم ، وذلك عين اتباع الهوى ، وشراء الضلالة بالهدى ، فإن الله وحده هو الذي يبين حدود العبودية ، وحقوق الربوبية ، فلا هداية إلا بفهم ما جاء به رسله عنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=175والعذاب بالمغفرة ) أي : واشتروا العذاب بالمغفرة في الآخرة ، وهذا أثر ما قبله ، فإن متبع الهدى هو الذي يستحق المغفرة لما يفرط منه وما يلم هو به من السوء ، ومتبع الضلال هو المستحق للعذاب ، ومن دعي إلى الحق يعرف هذا ، فإذا هو اختار الضلالة بعد صحة الدعوة وقيام الحجة فقد اشترى العذاب بالمغفرة ، وكان هو الجاني على نفسه إذ استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، غرورا بالعاجل ، واستهانة بالآجل (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=175فما أصبرهم على النار ) أي : إن صبرهم على عذاب النار الذي تعرضوا له مثار العجب ، ذلك بأن عملهم الموصوف في الآيتين هو العمل الذي يسوقهم إلى عذاب النار ، فتهوكهم فيه إنما هو تهوك من لا يبالي
[ ص: 86 ] به ، كأنه مما يطيقه ويمكنه الصبر عليه ، فلا يترك ضلالته اتقاء له ، وصيغة التعجب قالوا يراد بها تعجيب الناس من شأنهم إذ لا تتصور حقيقة التعجب من الله تعالى ; إذ لا شيء غريب عنده عز وجل ولا مجهول سببه ، وهو العالم بظواهر الأشياء وخوافيها ، وحاضرها عنده كماضيها وآتيها (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=3لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض ) ( 34 : 3 ) والصبر على النار غير واقع منهم فيتعجب منه حالا ، ولا متوقع فيتعجب منه مآلا ، فلا صبر هنالك يتعجب منه ، وإنما حالهم في تهوكهم وانهماكهم في العبث بدين الله هو الذي جعل موضع التعجب للتنفير والتشنيع عليهم ، ولكن صح في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى ، وطريقة السلف في مثله أن يقال : عجب يليق به ليس كعجب البشر مما يكبرون أمره ويجهلون سببه ، ويتأوله الأكثرون بالرضى من المتعجب منه .
وقال الأستاذ الإمام في العبارة ما معناه مبسوطا : إن الكلام في أكلهم النار والتعجب من صبرهم على النار هو تصوير لحالهم وتمثيل لمآلهم . أما الثاني فظاهر ، وأما الأول فيتجلى لك إذا تمثلت حال قوم عندهم كتاب يؤمنون أنه من الله ، ويؤمنون بلقاء الله ، وقد كتموا ما أنزل الله فيه بالتحريف والتأويل كما فعل
اليهود بكتمان وصف الرسول ، وهم يقارعون بالدلائل العقلية ، ويذكرون بآيات الله وأيامه فيشعرون بجاذبين متعاكسين : جاذب الحق الذي عرفوه ، وجاذب الباطل الذي ألفوه ، ذاك يحدث لهم هزة وتأثيرا ، وهذا يحدث لهم استكبارا ونفورا ، وقد غلب عقولهم ما عرفوا ، وغلب قلوبهم ما ألفوا ، فثبتوا على ما حرفوا وانحرفوا ، وصاروا إلى حرب عوان بين العقل والوجدان ، يتصورون الخطر الآجل فيتنغص عليهم التلذذ بالعاجل ، ويتذوقون حلاوة ما هم فيه فيؤثرونه على ما سيصيرون إليه .
أليس هذا الشعور بخذل الحق ونصر الباطل ، واختيار ما يفنى على ما يبقى نارا تشب في الضلوع ؟ أليس ما يأكلونه من ثمن الحق ضريعا لا يسمن ولا يغني من جوع ؟ بلى ; فإن عذاب الباطن أشد من عذاب الظاهر ، كما يومئ إليه قول الشاعر :
دخول النار للمهجور خير من الهجر الذي هو يتقيه
لأن دخوله في النار أدنى عذابا - من دخول النار فيه
فهذا تأويل وجيه لأكلهم النار وللتعجب من صبرهم على النار ، نزل به الوحي الإلهي وظهر على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن أرباب الأرواح العالية والمرائي الصافية تتمثل لهم المعاني بأتم ما تتمثل به لسائر الأرواح المحجوبة بالظواهر ، المخدوعة بالمظاهر ، التي يصرفها الاشتغال بالحس من معرفة مراتب النفس . فلا غرو إذا تمثلت للنبي - صلى الله
[ ص: 87 ] عليه وسلم - حال أولئك الجاحدين المعاندين - الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، واتخذوا إلههم الهوى ، وواثبوا الحق يقارعهم ويقارعونه ، وناصبوا الدليل ينازعهم وينازعونه - بحال الذي يتقحم في النار ، ويكره نفسه على الاصطبار ، كما يتمثل ذلك الثمن القليل الذي باعوا به الحق نارا يزدردونها ، إذ كان آلاما يتحملونها ; فمكابرة البرهان أشد العذاب عند العقلاء ، ومحاربة القلب ( الضمير والوجدان ) أوجع الآلام عند الفضلاء ، فالعاقل يستطيع أن يمنع نفسه من أكثر اللذات الحسية ، ولكنه لا يستطيع أن يمنع عقله العلم وذهنه الفهم ، فقد قيل (
لديوجين ) : لا تسمع ، فسد أذنيه . فقيل له : لا تبصر ، فأغمض عينيه . فقيل له : لا تذق ، فقبل . فقيل له : لا تفهم . فقال : لا أقدر . فلا غرو إذا مثلت للنبي حال أولئك المكابرين للحق مما ذكر وأظهرته البلاغة بصيغة التعجب تارة ، وبصورة أكل النار تارة .
قال تعالى في تعليل ما ذكر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=176ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ) أي : ذلك الحكم الذي تقرر في شأنهم هو بسبب أن الكتاب جاء بالحق ، والحق لا يغالب ولا يقاوى ، فمن غالبه غلب ، ومن خذله خذل . ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=176وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) أي : وإن الذين اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله للحكم في الخلاف وجمع الكلمة على اتباع الحق لفي شقاق وعداء بعيد عن سبيل الحق فأنى يهتدون إليه ، وكل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من مذهب أو رأي فيه حتى صار ( أي الكتاب ) وهو مزيل الاختلاف - أعظم أسبابه ، يطرق لأجل إزالته والحكم فيه كل باب غير بابه ؟ والشقاق : الخلاف والتعادي ، وحقيقته أن يكون كل واحد من الخصمين في شق أي في جانب غير الذي فيه الآخر ، والمختلفون في الدين ينـأى كل بجانبه عن الآخر فيكون الشقاق بينهما بعيدا كما ترى .
هذا حكم آخر في الكتاب غير حكم كتمانه ، فهو يفهمنا أن الاختلاف فيه بعد عن الحق ككتمانه ; لأن الحق واحد وهو ما يدعو إليه الكتاب ، والمختلفون لا يدعون إلى شيء واحد ولا يسلكون سبيلا واحدة . (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ( 6 : 153 ) وهذا دليل على أنه لا يجوز
لأهل الكتاب الإلهي أن يقيموا على خلاف في الدين ، ولا أن يكونوا شيعا كل يذهب إلى مذهب (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=159إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ( 6 : 159 ) ولما كان اختلاف الفهم ضروريا لأنه من طباع البشر وجب عليهم أن يتحاكموا فيه إلى الكتاب والسنة حتى يزول ، ولا يجوز أن يقيموا عليه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول 4 : 59 ) فلا عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم بعد هذا البيان الذي جعل لكل مشكل مخرجا .
الشقاق أثر طبيعي للاختلاف ، والاختلاف في الأمة أثر طبيعي للتقليد والانتصار للرؤساء الذين اتخذوا أندادا - ولو بدون رضاهم ولا إذنهم - إذ لولا التقليد لسهل على الأمة
[ ص: 88 ] أن ترجع في كل عصر أقوال المجتهدين والمستنبطين إلى قول واحد بعرضه على كتاب الله وسنة رسوله ، مثال ذلك : أن الكتاب والسنة صريحان في أن
nindex.php?page=treesubj&link=11013_27123النكاح لا يصح إلا إذا تولى العقد ولي المرأة برضاها أو غيره بإذنه ، وقد أجمع الصحابة على هذا عملا ، ونقل عن أعلمهم قولا ، ولم ينقل أحد فيه خلافا صحيحا ، فإذا وجد للحنفية في المسألة قولان أحدهما مخالف للنصوص وهو أن للبالغة الراشدة أن تزوج نفسها وثانيهما أنه ليس لها ذلك وهو الموافق للنصوص أفلم يكن من الواجب على المسلمين - وقد اختلف علماؤهم في هذه المسألة - أن يعرضوها على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسائر المجتهدين ، ويردوا الرواية المخالفة ويعملوا بالموافقة ؟ بلى ; ولكن التقليد هو الذي أوقعهم في الشقاق البعيد .
ويتوهم بعضهم أن ترك أقوال بعض الأئمة إهانة لهم ، وهذا غير صحيح بل هو عين التعظيم لهم ، والاتباع لسيرتهم الحسنة . ولو فرضنا أنه إهانة - وكان يتوقف عليها اتباع هدي كتاب الله وسنة رسوله - أفلا تكون واجبة ويكون تعظيم الكتاب والسنة مقدما عليه لأن إهانتها كفر وترك للدين ؟ على أن ترك أقوال الأئمة واقع ما له من دافع ، فإن أتباع كل إمام تاركون لأقوال غيره المخالفة لمذهبهم ; بل ما من مذهب إلا وقد رجح بعض علمائه أقوالا مخالفة لنص الإمام ولا سيما الحنفية .
هذا - وإن الكتاب لا مثار فيه للخلاف والنزاع إذا صحت النية ، فكل من يتعلم العربية تعلما صحيحا وينظر في سنة النبي وسيرته وما جرى عليه السلف من أصحابه والتابعين لهم يسهل عليه أن يفهمه ، وما تختلف فيه الأفهام لا يقتضي الشقاق ، بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم والفهم أن ينظروا في الفهمين المختلفين وطرق الترجيح بينهما ، وما ظهر لكلهم أو أكثرهم أنه الراجح يعتمدونه إذا كان يتعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها ، وما عساه ينفرد به بعض الأفراد من فهم خاص بمعارفه يكون حجة عليه دون غيره فهو لا يقتضي شقاقا ; لأن الشقاق فيه معنى المشاركة . والله أعلم وأحكم .
وأزيد هذا إيضاحا بما حققته في هذه المسألة بعد الطبعة الأولى لهذا الجزء ، وهو أن ما كان قطعي الدلالة من النصوص فهو الشرع العام الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه عملا وقضاء ، وأن ما كان ظني الدلالة فهو موكول إلى اجتهاد الأفراد في التعبدات والمحرمات ، وإلى أولي الأمر في الأحكام القضائية ، وسنعود إلى بيان هذا في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219يسألونك عن الخمر والميسر ) ( 2 : 219 ) من هذا الجزء .
ثُمَّ قَالَ فِيهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=175nindex.php?page=treesubj&link=28973_32428_27962أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ) أَيْ : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَخْ ، أَوِ الْمَجْزِيُّونَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَّرَهُمُ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فِي الدُّنْيَا ، فَأَمَّا الْهُدَى فَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ وَشَرْعُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ( 2 : 2 ) وَأَمَّا الضَّلَالَةُ : فَهِيَ الْعِمَايَةُ الَّتِي لَا يَهْتَدِي بِهَا الْإِنْسَانُ لِمَقْصِدِهِ ، وَتَكُونُ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَآرَاءِ النَّاسِ فِي الدِّينِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ - وَهَذِهِ الْآرَاءُ لَا ضَابِطَ لَهَا وَلَا حَدَّ ، فَأَهْلُهَا فِي خِلَافٍ وَشِقَاقٍ دَائِمٍ كَمَا سَيَأْتِي - فَمَنْ أَجَازَ لِنَفْسِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=20366_32210_20350اتِّبَاعَ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعِبَادَةِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَدْ تَرَكَ الْهُدَى الْوَاضِحَ الْمُبِينَ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَصَارَ إِلَى تِيهٍ مِنَ الْآرَاءِ مُشْتَبَهِ الْأَعْلَامِ ، يَضِلُّ بِهِ الْفَهْمُ ، وَلَا يَهْتَدِي فِيهِ الْوَهْمُ ، وَذَلِكَ عَيْنُ اتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَشِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى ، فَإِنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ حُدُودَ الْعُبُودِيَّةِ ، وَحُقُوقَ الرُّبُوبِيَّةِ ، فَلَا هِدَايَةَ إِلَّا بِفَهْمِ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=175وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ) أَيْ : وَاشْتَرَوُا الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فِي الْآخِرَةِ ، وَهَذَا أَثَرُ مَا قَبْلَهُ ، فَإِنَّ مُتَّبِعَ الْهُدَى هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ لِمَا يَفْرُطُ مِنْهُ وَمَا يُلِمُّ هُوَ بِهِ مِنَ السُّوءِ ، وَمُتَّبِعَ الضَّلَالِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعَذَابِ ، وَمَنْ دُعِيَ إِلَى الْحَقِّ يَعْرِفُ هَذَا ، فَإِذَا هُوَ اخْتَارَ الضَّلَالَةَ بَعْدَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ فَقَدِ اشْتَرَى الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَكَانَ هُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ إِذِ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، غُرُورًا بِالْعَاجِلِ ، وَاسْتِهَانَةً بِالْآجِلِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=175فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) أَيْ : إِنَّ صَبْرَهُمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ الَّذِي تَعَرَّضُوا لَهُ مَثَارُ الْعَجَبِ ، ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَهُمُ الْمَوْصُوفَ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَسُوقُهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ، فَتَهَوُّكُهُمْ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ تَهَوُّكُ مَنْ لَا يُبَالِي
[ ص: 86 ] بِهِ ، كَأَنَّهُ مِمَّا يُطِيقُهُ وَيُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ ، فَلَا يَتْرُكُ ضَلَالَتَهُ اتِّقَاءً لَهُ ، وَصِيغَةُ التَّعَجُّبِ قَالُوا يُرَادُ بِهَا تَعْجِيبُ النَّاسِ مِنْ شَأْنِهِمْ إِذْ لَا تُتَصَوَّرُ حَقِيقَةُ التَّعَجُّبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ; إِذْ لَا شَيْءَ غَرِيبٌ عِنْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا مَجْهُولٌ سَبَبُهُ ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَخَوَافِيهَا ، وَحَاضِرُهَا عِنْدَهُ كَمَاضِيهَا وَآتِيهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=3لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ( 34 : 3 ) وَالصَّبْرُ عَلَى النَّارِ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْهُمْ فَيُتَعَجَّبُ مِنْهُ حَالًا ، وَلَا مُتَوَقَّعٍ فَيُتَعَجَّبُ مِنْهُ مَآلًا ، فَلَا صَبْرَ هُنَالِكَ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا حَالُهُمْ فِي تَهَوُّكِهِمْ وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الْعَبَثِ بِدِينِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ لِلتَّنْفِيرِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ إِسْنَادُ الْعَجَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَطَرِيقَةُ السَّلَفِ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُقَالَ : عَجَبٌ يَلِيقُ بِهِ لَيْسَ كَعَجَبِ الْبَشَرِ مِمَّا يُكْبِرُونَ أَمْرَهُ وَيَجْهَلُونَ سَبَبَهُ ، وَيَتَأَوَّلُهُ الْأَكْثَرُونَ بِالرِّضَى مِنَ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْعِبَارَةِ مَا مَعْنَاهُ مَبْسُوطًا : إِنَّ الْكَلَامَ فِي أَكْلِهِمُ النَّارَ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى النَّارِ هُوَ تَصْوِيرٌ لِحَالِهِمْ وَتَمْثِيلٌ لِمَآلِهِمْ . أَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَتَجَلَّى لَكَ إِذَا تَمَثَّلْتَ حَالَ قَوْمٍ عِنْدَهُمْ كِتَابٌ يُؤْمِنُونَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ ، وَيُؤْمِنُونَ بِلِقَاءِ اللَّهِ ، وَقَدْ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ كَمَا فَعَلَ
الْيَهُودُ بِكِتْمَانِ وَصْفِ الرَّسُولِ ، وَهُمْ يُقَارَعُونَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ ، وَيُذَكَّرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَيَّامِهِ فَيَشْعُرُونَ بِجَاذِبَيْنِ مُتَعَاكِسَيْنِ : جَاذِبِ الْحَقِّ الَّذِي عَرَفُوهُ ، وَجَاذَبِ الْبَاطِلِ الَّذِي أَلِفُوهُ ، ذَاكَ يُحْدِثُ لَهُمْ هِزَّةً وَتَأْثِيرًا ، وَهَذَا يُحْدِثُ لَهُمُ اسْتِكْبَارًا وَنُفُورًا ، وَقَدْ غَلَبَ عُقُولَهُمْ مَا عَرَفُوا ، وَغَلَبَ قُلُوبَهُمْ مَا أَلِفُوا ، فَثَبَتُوا عَلَى مَا حَرَّفُوا وَانْحَرَفُوا ، وَصَارُوا إِلَى حَرْبٍ عَوَانٍ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ ، يَتَصَوَّرُونَ الْخَطَرَ الْآجِلَ فَيَتَنَغَّصُ عَلَيْهِمُ التَّلَذُّذُ بِالْعَاجِلِ ، وَيَتَذَوَّقُونَ حَلَاوَةَ مَا هُمْ فِيهِ فَيُؤْثِرُونَهُ عَلَى مَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ .
أَلَيْسَ هَذَا الشُّعُورُ بِخَذْلِ الْحَقِّ وَنَصْرِ الْبَاطِلِ ، وَاخْتِيَارِ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى نَارًا تَشِبُّ فِي الضُّلُوعِ ؟ أَلَيْسَ مَا يَأْكُلُونَهُ مِنْ ثَمَنِ الْحَقِّ ضَرِيعًا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ؟ بَلَى ; فَإِنَّ عَذَابَ الْبَاطِنِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الظَّاهِرِ ، كَمَا يُومِئُ إِلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
دُخُولُ النَّارِ لِلْمَهْجُورِ خَيْرٌ مِنَ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ يَتَّقِيهِ
لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي النَّارِ أَدْنَى عَذَابًا - مِنْ دُخُولِ النَّارِ فِيهِ
فَهَذَا تَأْوِيلٌ وَجِيهٌ لِأَكْلِهِمُ النَّارَ وَلِلتَّعَجُّبِ مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى النَّارِ ، نَزَلَ بِهِ الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ وَظَهَرَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ أَرْبَابَ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَائِي الصَّافِيَةِ تَتَمَثَّلُ لَهُمُ الْمَعَانِي بِأَتَمِّ مَا تَتَمَثَّلُ بِهِ لِسَائِرِ الْأَرْوَاحِ الْمَحْجُوبَةِ بِالظَّوَاهِرِ ، الْمَخْدُوعَةِ بِالْمَظَاهِرِ ، الَّتِي يَصْرِفُهَا الِاشْتِغَالُ بِالْحِسِّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَرَاتِبِ النَّفْسِ . فَلَا غَرْوَ إِذَا تَمَثَّلَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
[ ص: 87 ] عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالُ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ - الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ، وَاتَّخَذُوا إِلَهَهُمُ الْهَوَى ، وَوَاثَبُوا الْحَقَّ يُقَارِعُهُمْ وَيُقَارِعُونَهُ ، وَنَاصَبُوا الدَّلِيلَ يُنَازِعُهُمْ وَيُنَازِعُونَهُ - بِحَالِ الَّذِي يَتَقَحَّمُ فِي النَّارِ ، وَيُكْرِهُ نَفْسَهُ عَلَى الِاصْطِبَارِ ، كَمَا يَتَمَثَّلُ ذَلِكَ الثَّمَنُ الْقَلِيلُ الَّذِي بَاعُوا بِهِ الْحَقَّ نَارًا يَزْدَرِدُونَهَا ، إِذْ كَانَ آلَامًا يَتَحَمَّلُونَهَا ; فَمُكَابَرَةُ الْبُرْهَانِ أَشَدُّ الْعَذَابِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ ، وَمُحَارَبَةُ الْقَلْبِ ( الضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ ) أَوْجَعُ الْآلَامِ عِنْدَ الْفُضَلَاءِ ، فَالْعَاقِلُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ أَكْثَرِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ عَقْلَهُ الْعِلْمَ وَذِهْنَهُ الْفَهْمَ ، فَقَدْ قِيلَ (
لِدِيُوجِينَ ) : لَا تَسْمَعْ ، فَسَدَّ أُذُنَيْهِ . فَقِيلَ لَهُ : لَا تُبْصِرْ ، فَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ . فَقِيلَ لَهُ : لَا تَذُقْ ، فَقَبِلَ . فَقِيلَ لَهُ : لَا تَفْهَمْ . فَقَالَ : لَا أَقْدِرُ . فَلَا غَرْوَ إِذَا مُثِّلَتْ لِلنَّبِيِّ حَالُ أُولَئِكَ الْمُكَابِرِينَ لِلْحَقِّ مِمَّا ذُكِرَ وَأَظْهَرَتْهُ الْبَلَاغَةُ بِصِيغَةِ التَّعَجُّبِ تَارَةً ، وَبِصُورَةِ أَكْلِ النَّارِ تَارَةً .
قَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ مَا ذُكِرَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=176ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) أَيْ : ذَلِكَ الْحُكْمُ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي شَأْنِهِمْ هُوَ بِسَبَبِ أَنَّ الْكِتَابَ جَاءَ بِالْحَقِّ ، وَالْحَقُّ لَا يُغَالَبُ وَلَا يُقَاوَى ، فَمَنْ غَالَبَهُ غُلِبَ ، وَمَنْ خَذَلَهُ خُذِلَ . ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=176وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) أَيْ : وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ اللَّهُ لِلْحُكْمِ فِي الْخِلَافِ وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ لَفِي شِقَاقٍ وَعَدَاءٍ بِعِيدٍ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ فَأَنَّى يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُخَالِفُ الْآخَرَ بِمَا ابْتَدَعَهُ مِنْ مَذْهَبٍ أَوْ رَأْيٍ فِيهِ حَتَّى صَارَ ( أَيِ الْكِتَابُ ) وَهُوَ مُزِيلُ الِاخْتِلَافِ - أَعْظَمَ أَسْبَابِهِ ، يُطْرَقُ لِأَجْلِ إِزَالَتِهِ وَالْحُكْمِ فِيهِ كُلُّ بَابٍ غَيْرُ بَابِهِ ؟ وَالشِّقَاقُ : الْخِلَافُ وَالتَّعَادِي ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ فِي شِقٍّ أَيْ فِي جَانِبٍ غَيْرِ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ ، وَالْمُخْتَلِفُونَ فِي الدِّينِ يَنْـأَى كُلٌّ بِجَانِبِهِ عَنِ الْآخَرِ فَيَكُونُ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا بَعِيدًا كَمَا تَرَى .
هَذَا حُكْمٌ آخَرُ فِي الْكِتَابِ غَيْرُ حُكْمِ كِتْمَانِهِ ، فَهُوَ يُفْهِمُنَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ بُعْدٌ عَنِ الْحَقِّ كَكِتْمَانِهِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْكِتَابُ ، وَالْمُخْتَلِفُونَ لَا يَدْعُونَ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلَا يَسْلُكُونَ سَبِيلًا وَاحِدَةً . (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تُتْبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) ( 6 : 153 ) وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ أَنْ يُقِيمُوا عَلَى خِلَافٍ فِي الدِّينِ ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا شِيَعًا كُلٌّ يَذْهَبُ إِلَى مَذْهَبٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=159إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) ( 6 : 159 ) وَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُ الْفَهْمِ ضَرُورِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَزُولَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ 4 : 59 ) فَلَا عُذْرَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الَّذِي جَعَلَ لِكُلِّ مُشْكِلٍ مَخْرَجًا .
الشِّقَاقُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلِاخْتِلَافِ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْأُمَّةِ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلتَّقْلِيدِ وَالِانْتِصَارِ لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ اتُّخِذُوا أَنْدَادًا - وَلَوْ بِدُونِ رِضَاهُمْ وَلَا إِذْنِهِمْ - إِذْ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَسَهُلَ عَلَى الْأُمَّةِ
[ ص: 88 ] أَنْ تُرْجِعَ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُسْتَنْبِطِينَ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ بِعَرْضِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ صَرِيحَانِ فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=11013_27123النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا تَوَلَّى الْعَقْدَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ بِرِضَاهَا أَوْ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا عَمَلًا ، وَنُقِلَ عَنْ أَعْلَمِهِمْ قَوْلًا ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ فِيهِ خِلَافًا صَحِيحًا ، فَإِذَا وُجِدَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَهُوَ أَنَّ لِلْبَالِغَةِ الرَّاشِدَةِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ أَفَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ - وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - أَنْ يَعْرِضُوهَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَيَرُدُّوا الرِّوَايَةَ الْمُخَالِفَةَ وَيَعْمَلُوا بِالْمُوَافِقَةِ ؟ بَلَى ; وَلَكِنَّ التَّقْلِيدَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي الشِّقَاقِ الْبَعِيدِ .
وَيَتَوَهَّمُ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَرْكَ أَقْوَالِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ إِهَانَةٌ لَهُمْ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ هُوَ عَيْنُ التَّعْظِيمِ لَهُمْ ، وَالِاتِّبَاعِ لِسِيرَتِهِمُ الْحَسَنَةِ . وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ إِهَانَةٌ - وَكَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ هَدْيِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - أَفَلَا تَكُونُ وَاجِبَةً وَيَكُونُ تَعْظِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ لِأَنَّ إِهَانَتَهَا كُفْرٌ وَتَرْكٌ لِلدِّينِ ؟ عَلَى أَنَّ تَرْكَ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ، فَإِنَّ أَتْبَاعَ كُلِّ إِمَامٍ تَارِكُونَ لِأَقْوَالِ غَيْرِهِ الْمُخَالِفَةِ لِمَذْهَبِهِمْ ; بَلْ مَا مِنْ مَذْهَبٍ إِلَّا وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِهِ أَقْوَالًا مُخَالِفَةً لِنَصِّ الْإِمَامِ وَلَا سِيَّمَا الْحَنَفِيَّةُ .
هَذَا - وَإِنَّ الْكِتَابَ لَا مَثَارَ فِيهِ لِلْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ إِذَا صَحَّتِ النِّيَّةُ ، فَكُلُّ مَنْ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ تَعَلُّمًا صَحِيحًا وَيَنْظُرُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ وَسِيرَتِهِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينِ لَهُمْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْهَمَهُ ، وَمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَفْهَامُ لَا يَقْتَضِي الشِّقَاقَ ، بَلْ يَسْهُلُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي الْفَهْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَطُرُقِ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا ، وَمَا ظَهَرَ لِكُلِّهِمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ الرَّاجِحُ يَعْتَمِدُونَهُ إِذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهَا ، وَمَا عَسَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ بَعْضُ الْأَفْرَادِ مِنْ فَهْمٍ خَاصٍّ بِمَعَارِفِهِ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ لَا يَقْتَضِي شِقَاقًا ; لِأَنَّ الشِّقَاقَ فِيهِ مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
وَأَزِيدُ هَذَا إِيضَاحًا بِمَا حَقَّقْتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ الطَّبْعَةِ الْأُولَى لِهَذَا الْجُزْءِ ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ مِنَ النُّصُوصِ فَهُوَ الشَّرْعُ الْعَامُّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُهُ عَمَلًا وَقَضَاءً ، وَأَنَّ مَا كَانَ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فِي التَّعَبُّدَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ ، وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ ، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) ( 2 : 219 ) مِنْ هَذَا الْجُزْءِ .