ثم قال تعالى : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) وهذا انتقال من البر في الأعمال إلى البر في الأخلاق والأعمال الاجتماعية ، فذكر منها ما هو أهم أصول البر وهو الوفاء والصبر بضروبه المبينة بعد . وقد ذكر الأعمال بصيغة الفعل والأخلاق بصيغة الوصف ; لأن الأعمال أفعال ، والأخلاق صفات . وفيه تنبيه على أن من أوفى وصبر تكلفا لا يكون بارا حتى يصير الوفاء والصبر من أخلاقه ولو بتكرار التكلف والتعمل ، فقد ورد ( ( ) ) وقدم ما ذكر من الأعمال على هذه الأخلاق ; لأن الأعمال هي التي تطبع الأخلاق في النفوس ، ولا سيما الصلاة وبذل المال ، فلا أعون منهما على الوفاء والصبر وذلك ظاهر لقوم يفقهون . الحلم بالتحلم
قال الأستاذ الإمام : العهد عبارة عما يلتزم به المرء لآخر ، وهو بعمومه يشمل ما عاهد المؤمنون عليه الله بإيمانهم من السمع والطاعة والإذعان لكل ما جاء به دينه ، ويذكر العهد في القرآن والسنة كثيرا ويراد به في الغالب ما يعاهد به الناس بعضهم بعضا عليه ، ويشترط في وجوب الوفاء بهذا العهد ألا يكون في معصية . وفي معنى العهود العقود وقد أمرنا بالوفاء بها ، فيجب على المسلم أن يلتزم الوفاء بما يتعاقد عليه مع الناس ما لم يكن مخالفا لأمر الله ورسوله الثابت عنده ، ولقواعد الدين العامة .
وهذا الأمر لا مندوحة عنه ، وهو معقول الفائدة ; ولذلك قال أهل القوانين الوضعية : إن كل التزام يخالف أصول القوانين فهو باطل ، ولكن لا يجوز أن يعاهد الإنسان أحدا أو يعاقده على أمر يعلم أنه مخالف للدين لا بنية الوفاء ولا بنية الغدر ، والنقض الأول معصية ، والثاني معصيتان أو أكثر ; لما يتضمنه من الغدر والغش ، ولا يتحقق البر في الإيفاء إلا إذا كان المرء يوفي من نفسه بدون إلزام حاكم يقع أو يتوقع إذا هو لم يوف ، أو خوف أي جزاء ولو من غير الحكام ، فمن أوفى خوفا من إهانة تصيبه أو ذم يلحق به فهو غير بار ، ولا هو من الموفين بالعهود .
وقال الأستاذ الإمام ما مثاله : إن الإيفاء بالعهود والعقود من أهم الفرائض التي فرضها الله تعالى لنظام المعيشة والعمران ، وإنما الصلاة والزكاة من وسائله - والزكاة فرع منه في وجه آخر - فإن الله تعالى فرض علينا الصلاة - وهو غني عن العالمين - لنؤدب بها نفوسنا فنعيش في الدنيا عيشة راضية ، ونستحق بذلك عيشة الآخرة المرضية ; إذ المصلي أجدر الناس بالقيام بحقوق عباد الله الذين هم عيال الله بما يستولي على قلبه فيها من الشعور بسلطان الله تعالى وقدرته وفضله وإحسانه ، وعموم هذا السلطان والإحسان له وللناس كافة ، والغدر [ ص: 98 ] والإخلاف من الذنوب الهادمة للنظام ، المفسدة للعمران ، المفنية للأمم . وما فقدت أمة الوفاء الذي هو ركن الأمانة وقوام الصدق إلا وحل بها العقاب الإلهي ، ولا يعجل الله الانتقام من الأمم لذنب من الذنوب يفشو فيها كذنب ، وانظر حال أمة استهانت بالإيفاء بالعهود ولم تبال بالتزام العقود تر كيف حل بها عذاب الله تعالى بالإذلال ، وفقد الاستقلال ، وضياع الثقة بينها حتى في الأهل والعيال ، فهم يعيشون عيشة الأفراد لا عيشة الأمم : صور متحركة ، ووحوش مفترسة ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه ، إذا أمكن ليده أن تصل إليه ، ولذلك يضطر كل واحد إذا عاقد أي إنسان من أمته أن يستوثق منه بكل ما يقدر ، ويحترس من غدره بكل ما يمكن ، فلا تعاون ولا تناصر ، ولا تعاضد ولا تآزر ، بل استبدلوا بهذه المزايا التحاسد والتباغض ، والتعادي والتعارض ، بأسهم بينهم شديد ولكنهم أذلاء للعبيد ( قال ) : وقد أحصيت في سنة قضايا التخاصم في محكمة الإخلال بالعهد والإخلاف بالوعد بنها فألفيت أن خمسا وسبعين قضية في المائة منها بين الأقارب ، والباقي بين سائر الناس ، ولو كان في الناس وفاء لسلموا من كل هذا البلاء .