فصل فيما يفطر الصائم وما لا يفطره
ملخص من رسالة لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية نشرت في المجلد 31 من المنار ( قال رحمه الله ) : وهذا نوعان : منه ما يفطر بالنص والإجماع ، وهو الأكل والشرب والجماع ، وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين أن دم الحيض ينافي الصوم ، فلا تصوم [ ص: 152 ] الحائض لكن تقضي الصيام . وثبت بالسنة أيضا من حديث لقيط بن صبرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( ( ) ) فدل على أن وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما يفطر الصائم وهو قول جماهير العلماء . إنزال الماء من الأنف
وفي السنن حديثان :
( أحدهما ) حديث عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( أبي هريرة ) ) وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من أهل العلم ، بل قالوا هو من قول من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء ، وإن استقاء فليقض . قال أبي هريرة أبو داود : سمعت قال : ليس من ذا شيء . قال أحمد بن حنبل الخطابي : يريد أن الحديث غير محفوظ ، وقال الترمذي : سألت عنه فلم يعرفه إلا عن محمد بن إسماعيل البخاري ، قال : وما أراه محفوظا . قال : وروى عيسى بن يونس يحيى بن كثير ، عن عمر بن الحكم أن كان لا يرى القيء يفطر الصائم . أبا هريرة
قال الخطابي : وذكر أبو داود أن رواه عن حفص بن غياث هشام كما رواه عن ابن يونس قال : ولا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن فإنه لا قضاء عليه ، ولا في أن من ذرعه القيء فعليه القضاء ، ولكن اختلفوا في الكفارة ، فقال عامة أهل العلم : ليس عليه غير القضاء ، وقال من استقاء عامدا عطاء : عليه القضاء والكفارة ، وحكي عن وهو قول الأوزاعي . أبي ثور
فيه ثلاثة أقوال في مذهب والمجامع الناسي أحمد وغيره ، ويذكر ثلاث روايات عنه :
إحداها : لا قضاء عليه ولا كفارة ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين .
والثانية : عليه القضاء بلا كفارة وهو قول مالك .
والثالثة : عليه الأمران وهو المشهور عن أحمد . والأول أظهر كما قد بسط في موضعه ; فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن من فعل محظورا مخطئا أو ناسيا لم يؤاخذه الله بذلك وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله ، فلا يكون عليه إثم ، ومن لا إثم عليه لم يكن عاصيا ولا مرتكبا لما نهي عنه ، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه ، ومثل هذا لا يبطل عبادته ، وإنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أمر به أو فعل ما حظر عليه . وطرد هذا أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسيا ولا مخطئا لا الجماع ولا غيره وهو أظهر قولي . الشافعي
وكذلك طرد هذا أن فلا قضاء عليه ، وهو قول طائفة من السلف والخلف ، ومنهم من يفطر الناسي والمخطئ الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيا أو مخطئا كمالك ، وقال أبو حنيفة : هذا هو القياس لكن خالفه لحديث في الناسي ، ومنهم من قال لا يفطر الناسي ويفطر المخطئ ، وهو قول أبي هريرة أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان ، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فقالوا : النسيان لا يفطر ; لأنه لا يمكن [ ص: 153 ] الاحتراز منه بخلاف الخطأ فإنه يمكنه ألا يفطر حتى يتيقن غروب الشمس وأن يمسك إذا شك في طلوع الفجر .
وهذا التفريق ضعيف والأمر بالعكس ، فإن السنة للصائم أن يعجل الفطر ويؤخر السحور ، ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن يذهب وقت طويل جدا يفوت المغرب ويفوت تعجيل الفطور ، والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها ، فإذا غلب على ظنه غروب الشمس أمر بتأخير المغرب إلى حد اليقين فربما يؤخرها حتى يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس .
وأيضا فقد ثبت في صحيح البخاري قالت : أفطرنا يوما من رمضان في غيم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طلعت الشمس أسماء بنت أبي بكر ، وهذا يدل على شيئين : عن
( الأول ) على أنه لا يستحب مع الغيم ، فإنهم لم يفعلوا ذلك ولم يأمرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ورسوله ممن جاء بعدهم . التأخير إلى أن يتيقن الغروب
( والثاني ) لا يجب القضاء ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك كما نقل فطرهم ، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه لم يأمرهم .
فإن قيل : فقد قيل : أمروا بالقضاء قال : أوبد من القضاء ؟ قيل : لهشام بن عروة هشام قال ذلك برأيه ، لم يرو ذلك في الحديث ، ويدل على أنه لم يكن عنده بذلك علم أن معمرا روى عنه قال : سمعت هشاما قال : لا أدري قضوا أم لا ؟ ذكر هذا وهذا عنه ، والحديث رواه عن أمه البخاري فاطمة بنت المنذر عن أسماء ، وقد نقل هشام عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء ، وعروة أعلم من ابنه ، وهذا قول . إسحاق بن راهويه
وأيضا فإن الله قال في كتابه : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) . وهذه الآية مع الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين أنه مأمور بالأكل إلى أن يظهر الفجر ، فهو مع الشك في طلوعه مأمور بالأكل كما قد بسط في موضعه .
وأما الكحل والحقنة . وما يقطر في إحليله فهذا مما تنازع فيه أهل العلم ، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل ، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير ، ومنهم من لا يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك . والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك ، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام ، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه [ ص: 154 ] الأمة كما بلغوا سائر شرعه ، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثا صحيحا ولا ضعيفا ولا مسندا ولا مرسلا - علم أنه لم يذكر شيئا من ذلك . ومداواة المأمومة والجائفة
والحديث المروي في الكحل ضعيف رواه أبو داود في السنن ولم يروه غيره ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب المعتمدة .
والذين قالوا : إن هذه الأمور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة لم يكن معهم حجة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس ، وأقوى ما احتجوا به قوله : ( ( ) ) قالوا : فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله ، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه . والذين استثنوا التقطير قالوا : التقطير لا ينزل إلى جوفه ، وإنما يرشح رشحا فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه ، والذين استثنوا الكحل ، قالوا : العين ليست كالقبل والدبر ، ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء ، والذين قالوا الكحل يفطر ، قالوا : إنه ينفذ إلى داخله حتى يتنخمه الصائم ; لأن في داخل العين منفذا إلى داخل الحلق . وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها ; لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه : وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما
( أحدها ) أن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته فقد قلنا في الأصول : إن الأحكام الشرعية بينتها النصوص أيضا ، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية ، فإذا علمنا بأن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب ، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد ، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء فعلمنا أنها ليست مفطرة .
( الوجه الثاني ) أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانا عاما ، ولا بد أن تنقلها الأمة ، فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه ، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان ، ولا حج بيت غير البيت الحرام ، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس ، ولم يوجب الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال ، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم ; وإن كان في مظنة خروج الخارج ، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت ، وبهذا يعلم أن ليس بنجس ; لأنه لم ينقل عن أحد بإسناد يحتج به أنه أمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوى بذلك ، بل أمر الحائض أن تغسل قميصها من دم الحيض مع قلة الحاجة إلى ذلك ، ولم يأمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني . والحديث الذي يرويه بعض الفقهاء ( ( المني ) ) ليس من كلام النبي صلى الله عليه [ ص: 155 ] وسلم ، وليس في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها ولا رواه أحد من أهل العلم بالحديث بإسناد يحتج به ، وروي عن يغسل الثوب من البول والغائط والمني والمذي والدم عمار وعائشة من قولهما .
وغسل عائشة للمني من ثوبه وفركها إياه لا يدل على وجوب ذلك ، فإن الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق ، والوجوب إنما يكون بأمره ، لا سيما ولم يأمر هو سائر المسلمين بغسل ثيابهم من ذلك ، ولا نقل أنه أمر عائشة بذلك ، بل أقرها على ذلك ، فدل على جوازه أو حسنه واستحبابه ، وأما الوجوب فلا بد له من دليل .
فإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى ، لا بد أن يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانا عاما ، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك ، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب ; فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما بين الإفطار بغيره ، فلما لم يبين الإفطار علم أنه من جنس ، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجساما ، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان ، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة ، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطيبه وتبخيره وإدهانه ، وكذلك اكتحاله . وقد كان المسلمون في عهده - صلى الله عليه وسلم - يجرح أحدهم إما في الجهاد وإما في غيره مأمومة وجائفة ، فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك ، فلما لم ينه الصائم عن ذلك ; علم أنه لم يجعله مفطرا . الطيب والبخور والدهن
( الوجه الثالث ) إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحا وذلك إما قياس على بابه الجامع ، وإما بإلغاء الفارق ، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل معدي لها إلى الفرع ، وإما أن يعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع ، وهذا القياس هنا منتف .
وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطرا : هو ما كان واصلا إلى دماغ أو بدن ، أو ما كان داخلا من منفذ أو واصلا إلى الجوف ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله ، ويقولون : إن الله ورسوله إنما جعل الطعام والشراب مفطرا لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب ، ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة ، وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والنقط في الإحليل وغير ذلك .
وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل ، كان قول القائل : إن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطرا لهذا - قولا بلا علم ، وكان قوله : ( ( إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا ) ) قولا - بأن هذا حلال وهذا حرام - بلا علم ، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم وهذا لا يجوز .
[ ص: 156 ] ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكم فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحا ، أو دلالة لفظ على معنى لم يرده الرسول ، وهذا اجتهاد يثابون عليه ، ولا يلزم أن يكون قولا بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها .
( الوجه الرابع ) أن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم ، إذا سبرنا أوصاف الأصل فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين ، وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد عند من يقول به ، فلا بد من السبر ، فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يعلل الحكم بهذا دون هذا .
ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائما ، وقياسهم على الاستنشاق أقوى حججهم كما تقدم وهو قياس ضعيف ; وذلك لأن ( من ) نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه ، فيحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه ، ويغذي بدنه من ذلك الماء ، ويزول العطش ويطبخ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء ، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم ، وذلك غير معتبر ، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر ، فليس هو مفطرا ولا جزءا من المفطر لعدم تأثيره ، بل هو طريق إلى الفطر ، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة ; فإن الكحل لا يغذي ألبتة ، ولا يدخل أحد كحلا إلى جوفه لا من أنفه ولا من فمه ، وكذلك الحقنة لا تغذي بل تستفرغ ما في البدن ، كما لو شم شيئا من المسهلات ، أو فزع فزعا أوجب استطلاق جوفه ، وهي لا تصل إلى المعدة .
والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه انتهى . كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .