( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ) بعد أن بين تعالى حال كملة المؤمنين كلهم قفى عليه بذكر مردة المنافقين من أهل البدو والحضر ، وعطفهم عليهم من باب عطف الضد على الضد ، فهو يقول : إن بعض الأعراب الذين حولكم أيها المؤمنون منافقون .
قال البغوي : وهم من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، كانت منازلهم حول المدينة ، أي كما كان فيهم مؤمنون صادقون دعا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن من أهل المدينة نفسها منافقين أيضا من الأوس والخزرج غير من أعلم الله ورسوله بهم في هذه السورة بما صدر عنهم من الأقوال والأفعال المنافية للإيمان ، وقد وصف هؤلاء بقوله : ( مردوا على النفاق ) أي مرنوا عليه وحذقوه حتى بلغوا الغاية من إتقانه وجعله بحيث لا يشعر أحد به لاتقائهم جميع الأمارات والشبهات التي تدل عليه . يقال : مرد على الشيء يمرد ( كقعد يقعد ) مرودا إذا مرن عليه . وإذا عتا واشتد فيه حتى يتعذر إرجاعه عنه . ومن الأول الغلام الأمرد الذي لم ينبت الشعر في وجهه ، والشجرة المرداء التي لا ورق فيها ، ومنه مرد الشيء تمريدا إذا صقله وملسه حتى صار أملس لا حرشة فيه ولا خشونة ، ومنه ( صرح ممرد من قوارير ) ( 27 : 44 ) قال في اللسان وتأويل المرود أن يبلغ الغاية التي تخرج من جملة ما عليه الصنف . ثم قال : والمرود على الشيء المرون عليه ، ومرد على الكلام : أي مرن عليه لا يعبأ به - أي لا يعنى أن يتكلف له - قال الله تعالى : ( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ) ، قال الفراء : يريد مرنوا عليه وجربوا كقولك : تمردوا ، وقال : المرد التطاول بالكبر والمعاصي ومنه قوله ( ابن الأعرابي مردوا على النفاق ) أي تطاولوا . ا هـ .
[ ص: 16 ] ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) أي لا تعرفهم أيها الرسول بفطنتك ودقة فراستك التي تنظر فيها بنور الله لحذقهم وتجنب مثارات الشبهة ، وأكد هذا النفي بإثبات العلم بأعيانهم له وحده عز وجل ، ولعلهم أخفى نفاقا وأشد تقية ممن قال فيهم : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ) ( 47 : 29 ، 30 ) .
فهؤلاء ممن لم يعلمه الله بأعيانهم كما أعلمه بمن أشير إليهم في الآية ( 74 ) ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم في هذه السورة ; لأنهم بمرودهم على النفاق يتحامون ما يكون شبهة على إيمانهم ، فضرره قاصر عليهم ، وحكمة إخباره تعالى إياه بذلك أن يعلموا هم أن الله عليم بما يسرون من نفاقهم ، ويحذروا أن يفضحهم كما فضح غيرهم ; ليتوب المستعد للإيمان منهم وهو في ستر الله تعالى قبل أن ينجز ما أوعدهم بقوله : ( سنعذبهم مرتين ) أي في الحياة الدنيا ، إحداهما : ما يصيبهم من المصائب وتوبيخ الضمائر ، وانتظار الفضيحة بهتك أستار السرائر وما يتلو ذلك من جهادهم إذا ظهر نفاقهم كغيرهم ، والثانية : آلام الموت ، وزهوق أنفسهم وهم كافرون ، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند موتهم ، فأقرب ما يفسر به العذاب مرتين هو ما تقدم في تفسير الآيات ( 55 ، 73 ، 74 ، 82 ، 85 ) ففيه بيان لكل ما يصيب المنافقين في الدنيا من عذاب الوجدان الباطن ، وعذاب من يفتضح أمرهم في الظاهر ، وورد في التفسير المأثور أقوال في هاتين المرتين بعضها في معنى ما ذكرنا وبعضها مردود ومتناقض . ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) أي في الآخرة وهو عذاب جهنم ، وهم في الدرك الأسفل منها كما تقدم .
جاء في كتب التفسير المأثور فإن صح فهو عدد الذين سبق تهديدهم في هذه السورة لظهور نفاقهم دون الذين مردوا على النفاق ، ولكن لم يرو لنا ما كان من أمر هؤلاء بعد هذه الفضيحة بكفرهم ومنعهم من الصلاة ومقتضاه أن تجري عليهم أحكام المرتدين ، ومثل هذا لا يخفى وتتوفر الدواعي على نقله بالتواتر أو الاستفاضة ، ولم يرو لنا المحدثون شيئا فيه ، والذي أراه أن الرواية غير صحيحة والله أعلم . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس مرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( ( إن منكم منافقين فمن سميته فليقم ) ) ثم قال قم يا فلان - حتى سمى 36 رجلا
والعبرة في هذا السياق أن هؤلاء المنافقين فريقان : فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها ، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى صار أملس ناعما لا يكاد يشعر أحد بشيء يستنكره منه فيظهر عليه ، وكل من الفريقين يوجد في كل عصر ولا سيما منافقي السياسة في هذا العهد ، وهم الذين اتخذهم الأجانب المعتدون على بلاد الإسلام دعاة وولائج وأعوانا على استعباد أمتهم واستعمار أوطانهم ، فما من قطر من هذه الأقطار التي رزئت بالأجانب [ ص: 17 ] إلا ولهم فيها أعوان وأنصار من أهلها يزعمون أنهم يخدمون أمتهم ووطنهم من طريق استمالتهم واسترضائهم ، وأنهم لولاهم لما وفقوا من الظلم وهضم الحقوق عند الحد الذي هم عليه ، ومنهم من يخدمون الأجانب خدما خفية لا تشعر بها الأمة لأنهم مردوا على النفاق ، وإنما يحتاج الخونة الخادمون للأجانب إلى نفاق ، وتلبيس خيانتهم وإخفائها بالكذب والاختلاق ، إذا كان للرأي العام فطنة وقوة يخشونها ، وأما البلاد التي استحوذ عليها الجهل والضعف فلا يبالي الخائنون برضاء أهلها ولا بسخطهم .
وأشد المنافقين مرودا وإتقانا للنفاق أعوان الملوك والأمراء المستبدين ، وشرهم وأضرهم الذين يلبسون لباس علماء الدين .