( وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ) .
[ ص: 31 ] نزلت هذه الآيات الأربع في واقعة حال من ، لم أر أحدا بين حكمة خاصة لتأخيرها عن أمثالها مما نزل في أعمال المنافقين ووضعها هنا في سياق توبة المذنبين من المؤمنين : ما تقدم منها فقبل ، وما تأخر فأرجئ ، وقد بينا الحكمة العامة في تفريق الآيات في الموضوع الواحد - وهو تجديد الذكرى والعظة ، وما تقتضيه من التأثير والعبرة - في مواضع متعددة من الكلام على التناسب ووجوه الاتصال بين الآيات . ولعل بعض ضعفاء المؤمنين كانوا قد شايعوا أولئك المنافقين الاثني عشر الذين بنوا مكايد المنافقين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين مسجد الضرار في عملهم جاهلين مقاصدهم منه ، فأريد بوضع القصة هنا وإبهام عطفها على من أرجأ الله الحكم في أمرهم ، أن يتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه ، ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم ، ولو بصلاتهم معهم في مسجدهم .
روي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء في خلافته بأن يأذن عمر بن الخطاب لمجمع فيؤمهم في مسجدهم ، فقال : لا ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال : يا أمير المؤمنين لا تعجل علي ، فوالله لقد صليت بهم والله يعلم أني لا أعلم ما أضمروا فيه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرءون من القرآن شيئا . فعذره وصدقه وأمره بالصلاة بقومه قال تعالى :
( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ) يحتمل أن تكون هذه الجملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من السياق في جملته ، حذف خبرها للعلم به ، ويبعد أن تكون معطوفة على قوله : ( وآخرون مرجون ) إلا على قول ضعيف روي عن الحسن وهو أنه في المنافقين ، والأفصح أن يكون لفظ ( ( الذين ) ) منصوبا على الاختصاص بالذم ، وجعله محتملا لما ذكر ولغيره نراه من الإبهام الذي تقتضيه البلاغة في هذا المقام لما أشرنا إليه آنفا من الإيهام ، وقد قرر علماء البيان أن البلاغة تقتضي أحيانا إيراد عبارة تذهب النفس في فهمها عدة مذاهب محتملة فيها . وقرأ نافع وابن عامر الذين بغير واو . وهي أقرب إلى قول الحسن منها إلى قول الجمهور ، وما أشرنا إليه من حكمة وضع الآيات هنا أظهر في هذه القراءة منه في قراءة جمهور القراء - فتأمل .
ذكر المفسرون أن هؤلاء الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج وسموهم بأسمائهم ، وقد بين الله تعالى أن الأغراض التي بنوه لأجلها أربعة ذكرت منصوبة على المفعول لأجله وهي :
( 1 ) أنهم اتخذوه لمضارة المؤمنين أي محاولة إيقاع الضرر بهم ، وهم أهل مسجد قباء [ ص: 32 ] الذي بناه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمه من مكة مهاجرا وقبل وصوله إلى المدينة إذ بنوه بجواره مضادة لهم في الاجتماع للصلاة فيه .
( 2 ) الكفر أو تقوية الكفر ، وتسهيل أعماله من فعل وترك ، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هنالك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد ، والتشاور بينهم في الكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك ، قيل لا بد هنا من تقدير مضاف لأن بناء المسجد نفسه ليس كفرا ، ولكن التعليلات الأربعة في الآية هي القصد من البناء المعبر عنه بالاتخاذ ، والكفر يطلق على الاعتقاد ، وعلى العمل المنافيين للإيمان .
( 3 ) التفريق بين المؤمنين الذين هنالك ، فإنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء ، وفي ذلك من مقاصد الإسلام الاجتماعية ما فيه ، وهو التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة ، ولذلك كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيا لمقاصد الإسلام ، ومن الواجب على المسلمين في كل بلد أن يصلوا في مسجد واحد إذا تيسر ، فإن تفرقوا عمدا وصلوا في عدة مساجد - والحالة هذه - كانوا خاطئين ، وذهب بعض الأئمة إلى أن الجمعة الصحيحة تكون حينئذ لأهل المسجد الذين سبقوا بالتجميع .
وهذا يدل على أن بناء المساجد لا يكون قربة مقبولة عند الله إلا إذا كان بقدر حاجة المؤمنين المصلين ، وغير سبب لتفريق جماعتهم ، ومنه يعلم أن كثيرا من مساجد مصر القريب بعضها من بعض - وكذا أمثالها في الأمصار الأخرى - لم تبن لوجه الله تعالى ، بل كان الباعث على بنائها الرياء ، واتباع الأهواء ، من جهلة الأمراء والأغنياء .
( 4 ) الإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبل اتخاذ هذا المسجد ، أي الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجيء محاربا ، فيجد مكانا مرصدا له ، وقوما راصدين مستعدين للحرب معه ، وهم هؤلاء المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدا لذلك . يقال : رصدته أي قعدت له على طريقه أترقبه ، وراصدته راقبته ، وأرصدت هذا الجيش للقتال وهذا الفرس للطراد . انتهى ملخصا من الأساس ، واتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد لهذا الغرض رجل من الخزرج يعرف بأبي عامر الراهب وعدهم بأن سيأتيهم بجيش من الروم لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
( وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ) إخبار مؤكد بالقسم أنهم سيحلفون : إنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة أو الخطة التي تفوق غيرها في الحسن ; وهي الرفق بالمسلمين وتيسير صلاة الجماعة على أولي العجز والضعف ومن يحبسهم المطر منهم ، ليصدقهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويصلي لهم فيه : ( والله يشهد إنهم لكاذبون ) في قولهم ، حانثون بيمينهم . قال العماد ابن كثير :
[ ص: 33 ] سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير . فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش ، فألبهم لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد ، فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله عز وجل ، وكانت العاقبة للمتقين ، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصيب ذلك اليوم ، فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه ، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبوه ، فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شر ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن فأبى أن يسلم وتمرد ، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يموت بعيدا طريدا ، فنالته هذه الدعوة ، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعده ومناه ، وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك . فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : ( ( إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله ) ) فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم ( مسجد قباء ) الذي أسس من أول يوم على التقوى ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك من هدمه قبل مقدمهالمدينة كما قال علي بن أبي طلحة عن في الآية - وذكر روايته بمعنى ما ذكر مختصرة ا هـ . ابن عباس
[ ص: 34 ] وذكر البغوي في خبر أبي عامر الفاسق هذا أنه ما زال يقاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحرض عليه المشركين إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملكالروم فآت بجند من الروم إلى آخر ما تقدم آنفا .