فعل القرآن في مشركي العرب
قلنا إن فعل القرآن في أنفس العرب كان على نوعين : فعله في المشركين ، وفعله في المؤمنين ، فالأول تأثير روعة بلاغته ، ودهشة نظمه ، وأسلوبه الجاذب لفهم دعوته والإيمان به ، إذ لا يخفى حسنها على أحد فهمها ، وكانوا يتفاوتون في هذا النوع تفاوتا كبيرا لاختلاف درجاتهم في بلاغة اللغة وفهم المعاني العالية .
فهذا التأثير هو الذي أنطق الوليد بن المغيرة المخزومي بكلمته العالية فيه لأبي جهل [ ص: 168 ] التي اعترف فيها بأنه الحق الذي يعلو ولا يعلى ، والذي يحطم ما تحته ، وكانت كلمة فائضة من نور عقله وصميم وجدانه ، وما استطاع أن يقول كلمة أخرى في الصد عنه بعد إلحاح أبي جهل عليه باقتراحها إلا بتكليف لمكابرة عقله ووجدانه ، وبعد أن فكر وقدر ، ونظر وعبس وبسر ، وأدبر واستكبر ، كما يعلم من سورة المدثر وسبب نزول قوله تعالى : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) ( 74 : 11 ) الآيات منها .
وهذا التأثير هو الذي كان يجذب رءوس أولئك الجاحدين المعاندين ليلا لاستماع تلاوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته ، على ما كان من نهيهم عنه ونأيهم عنه ، وتواصيهم وتقاسمهم لا يسمعن له ، ثم كانوا يتسللون فرادى مستخفين ، ويتلاقون في الطريق متلاومين .
وهذا التأثير هو الذي حملهم على - رضي الله عنه - في الصلاة والتلاوة في أبي بكر الصديق المسجد الحرام ليلا لما كان لتلاوته وبكائه في الصلاة من التأثير الجاذب إلى الإسلام ، وعللوا ذلك بأنه يفتن عليهم نساءهم وأولادهم ، فاتخذ مسجدا له بفناء داره فطفق النساء والأولاد الناشئون ينسلون إلى بيته ليلا لاستماع القرآن ، فنهاه أشراف المشركين بأن العلة لا تزال ، وأنهم يخشون أن يغلبهم نساؤهم وأولادهم على الإسلام ، وكانوا ألجئوه إلى الهجرة فهاجر فلقي في طريقه منع ابن الدغنة سيد قومه فسأله عن سبب هجرته فأخبره الخبر وهو يعرف فضائل أبي بكر من قبل الإسلام فأجاره وأعاده إلى مكة بجواره ، فعاد إلى قراءته ، وعاد النساء والنشء الحديث إلى الاستماع له ، حتى اضطر المشركون ابن الدغنة إلى إقناعه بترك رفع صوته بالقرآن أو يرد عليه جواره ، فرد أبو بكر جواره اكتفاء بجوار الله تعالى ، وخبره هذا رواه في باب الهجرة وأوردناه بطوله في تفسير آية الغار ( ص 377 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) . البخاري
بل هذا التأثير هو الذي حملهم على صد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقوة عن تلاوة القرآن في البيت الحرام وفي أسواق الموسم ومجامعه ، وعلى تواصيهم بما حكاه الله تعالى عنهم في قوله : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) ( 41 : 26 ) .
وقد أدرك هذا أحد فلاسفة فرنسة فذكر في كتاب له قول دعاة النصرانية : إن محمدا لم يأت بآية على ثبوته كآيات موسى وعيسى ، وقال في الرد عليهم : إن محمدا كان يقرأ القرآن خاشعا أواها متألها فتفعل قراءته في جذب الناس إلى الإيمان ما لم تفعله جميع آيات الأنبياء الأولين ( أقول ) : ولو كان القرآن ككتب القوانين المرتبة وكتب الفنون المبوبة ، لما كان لقليله وكثيره من التأثير ما كان لسوره المنزلة .
كان كل ما يطلبه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قومه أن يمكنوه من تبليغ دعوة ربه بتلاوة [ ص: 169 ] القرآن على الناس . قال تعالى مخاطبا له : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) ( 6 : 19 ) أي وأنذر به كل من بلغه من غيركم من الناس . وقال في آخر سورة النمل ( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ) ( 27 : 91 - 93 ) إن قريش عرفوا من قوة جذب الناس إلى الإسلام بوقعه في أنفسهم ما لم يعرفه غيرهم ، وعرفوا أنه ليس لجمهور العرب مثل ما لهم من أسباب الجحود والمكابرة ، فقال لهم عمه رؤساء أبو لهب من أول الأمر : خذوا على يديه ، قبل أن تجتمع العرب عليه ) ) ففعلوا . وكان من ثباته على بث الدعوة واحتمال الأذى ما أفضى بهم إلى الاضطهاد وأشد الإيذاء له ولمن يؤمن به ، ثم إجماع الرأي على قتله ، حتى ألجئوهم إلى الهجرة بعد الهجرة ، ثم صاروا يقاتلونه في دار هجرته وما حولها ، ونصره الله عليهم ، إلى أن اضطروا إلى عقد الصلح معه في الحديبية سنة ست من الهجرة وكان أهم شروط الصلح السماح للمؤمنين بمخالطة المشركين الذي كان سبب سماعهم للقرآن ، ودخولهم بتأثيره في دين الله أفواجا ، فكان انتشار الإسلام في أربع سنين بالسلم والأمان أضعاف انتشاره في ست عشرة سنة من أول الإسلام .