وهاهنا لقن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - الجواب بقوله : ( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ) أي إنني بشر رسول لا أملك لنفسي - فضلا عن غيرها - شيئا من التصرف في الضر فأدفعه عنها ولا النفع فأجلبه لها ، من غير طريق الأسباب التي يقدر غيري عليها ، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين ، ولا هبة النصر للمؤمنين ( إلا ما شاء الله ) أي لكن ما شاء الله من ذلك كان متى شاء لي فيه ; لأنه خاص بالربوبية دون الرسالة التي وظيفتها التبليغ لا التكوين . هكذا قال جمهور المفسرين إن الاستثناء هنا منقطع وله أمثال تقدم بعضها ، كقوله تعالى وهو من أظهرها الصريح في هذا المقام : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) ( 7 : 188 ) والاختلاف بين الآيتين في تقديم ذكر الضر على النفع وتأخيره لاختلاف المقام ، فقد قدم الضر في آية يونس لأنها جواب للمشركين عن ميعاد العذاب الذي أنذروا به ، وهو من الضر ، وقدم النفع في آية الأعراف لأن المقام بيان الحقيقة في نفسها ، وهو أن فضلا عن ملكه لغيره ، والمناسب في هذا تقديم النفع لأنه هو المقصود بالذات من تصرف [ ص: 321 ] الإنسان وسعيه لنفسه . وقيل : إن الاستثناء متصل ، وحينئذ يكون المنفي المستثنى منه عاما لما يملكه الإنسان بالأسباب العادية ، فيكون المعنى : إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه بما أعطاني من الكسب الاختياري مع تيسير أسبابه لي ، وأما الآيات الخارقة للعادة فهي لله وحده ، لا مما يملكه رسله . الرسول لا يملك لنفسه شيئا من التصرف في الكون بغير الأسباب العامة
وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال بقوله : ( لكل أمة أجل ) لبقائها وهلاكها ، علمه الله وقدره لها لا يعلمه ولا يقدر عليه غيره ( إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) أي فلا يملك رسولهم من دونه تعالى أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة عن الزمان المقدر له وإن قلت ولا أن يطلب ذلك منه تعالى ، وهو معنى ما تدل عليه السين والتاء في الأصل . وقد حققنا معنى هذا النص في آية سورة الأعراف ( 7 : 34 ) بلفظه فاستغرق أربع ورقات من جزء التفسير الثامن فليراجعه من شاء ، إلا أنه قال هنالك : ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ) إلخ وقال هنا : ( إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ) إلخ ، والفرق بينهما أن ما هنا أبلغ في نفي تأخير الوعيد لأنه تفنيد لاستعجالهم به وذلك أنه جعل الجملة الشرطية وصفا للأجل مرتبطا به مباشرة لا يتخلف عنه ، وما هنالك إخبار بآجال الأمم مبتدأ وما بعده تفريع عليه ، فهو لا يدل على لزومه له بلا مهملة كالذي هنا . وقد تكرر هذا السؤال من المشركين مع جوابه في سور أخرى ، وأشبهه بما هنا سياق سورة النمل وأجيب فيها بقوله : ( قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ) ( 27 : 72 ) وهو من ردفه إذا لحقه وتبعه ، وعدي باللام لتأكيده أو تضمينه معنى يناسبه .
وقد بلغ من جهل الخرافيين من المسلمين بتوحيد الله ، أن مثل هذه النصوص من آيات التوحيد لم تصد الجاهلين به منهم عن دعوى قدرة الأنبياء والصالحين - حتى الميتين منهم - على كل شيء من التصرف في نفعهم وضرهم ، مما لم يجعله الله تعالى من الكسب المقدور لهم بمقتضى سننه في الأسباب ، بل يعتقدون أن منهم من يتصرفون في الكون كله ، كالذين يسمونهم الأقطاب الأربعة . وأن بعض كبار علماء الأزهر في هذا العصر يكتب هذا حتى في مجلة الأزهر الرسمية ( نور الإسلام ) فيفتي بجواز في كل ما يعجزون عنه من جلب نفع ودفع ضر ، وألف بعضهم كتابا في إثبات ذلك ، وكون الميتين من الصالحين ينفعون ويضرون بأنفسهم ، ويخرجون من قبورهم فيقضون حوائج من يدعونهم ويستغيثون بهم . قال في فتح البيان بعد نقله القول الأول في الاستثناء عن أئمة المفسرين وترجيحه ما نصه : دعاء غير الله من الموتى والاستغاثة بهم
( ( وفي هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه ، وكذلك من صار يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه ; [ ص: 322 ] فإن هذا مقام رب العالمين ، الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين ، ورزقهم وأحياهم ويميتهم ، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ؟ ويترك الطلب لرب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطي المانع ؟ وحسبك بما في هذه الآية من موعظة ، فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده ( المناداة لرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو الاستغاثة به عند نزول النوازل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ) فكيف يملكه لغيره ؟ وكيف يملكه غيره - ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته - لنفسه ، فضلا عن أن يملكه لغيره ؟
( ( فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى ، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ! كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى ( ( لا إله إلا الله ) ) ومدلول ( قل هو الله أحد ) ( 112 : 1 ) ( ( وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى بل إلى ما هو أشد منها ; فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، الضار النافع ، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين لهم إليه ، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع ، وينادونهم تارة على الاستقلال وتارة مع ذي الجلال وكفاك من شر سماعه ، والله ناصر دينه ، ومطهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر . ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( 18 : 104 ) ( ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ) ا ه .