أما على القراءة المعروفة فالحكم مسند إلى الكتاب نفسه ، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل [ ص: 227 ] بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وفيه نداء على الحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه وألا يعدلوا عنه إلى ما تسوله الأنفس وتزينه الأهواء; فإن الكتاب نفسه هو الحاكم وليس الحاكم في الحقيقة سواه ، ولو ساغ للناس أن يؤولوا نصا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم بدون رجوع إلى بقية النصوص ، وبناء التأويل على ما يؤخذ من جميعها جملة لما كان لإنزال الكتب فائدة ، ولما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة بل تتحكم الأهواء ، وتذهب النفوس منازع شتى ، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر جديد ، وهو الاختلاف في ضروب التأويل ، وبناء كل واحد حكما على ما نزع، فتعود المصلحة مفسدة ، وينقلب الدواء عليه; ولهذا رد الله تعالى الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به وقال : ( فيما اختلفوا فيه ) لأن الاختلاف كان تابعا لتلك الوحدة التي بيناها فكان كأنه لازم لها ، وهو كذلك كما يبينه تاريخ البشر وما توارثوه عن أسلافهم ، وكما يقضي فيما اختلفوا فيه يقضي فيما يختلفون به من بعد ، ونسبة الحكم إلى الكتاب هي كنسبة النطق والهدى والتبشير إليه في قوله : ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) ( 45 : 29 ) وقوله : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين ) ( 17 : 9 ) وكنسبة القضاء إليه في قول الشاعر :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
والسر في التجوز هو ما ذكرت لك ، وقد يعود الضمير على الله; أي : أنزل الله معهم الكتاب بالحق ليحكم سبحانه بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وهو يشعر كذلك بأن الحاكم يجب أن يكون هو الله دون آراء البشر وظنونهم التي لا ترد إليه جل شأنه .