( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ) .
بين الله تعالى في هذه الآية عبرة أخرى من عبر مكذبي الرسل وسنة من سننه فيهم ، تكملة لما بينه في حال قوم نوح مع رسولهم ، عسى أن يعتبر بها أهل مكة فيعلموا كيف [ ص: 379 ] يتقون عاقبة المكذبين من قوم نوح وغيرهم ، فإن كل سوء وضر علم سببه أمكن اتقاؤه باتقاء سببه ، إذا كان من عمل الناس الاختياري كالكفر والاعتداء والظلم .
( ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم ) أي بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه فيما يأتي من خبرهم معهم ، ولهذا أفرد كلمة ( قومهم ) فيما يظهر لنا منه ، والمراد : أرسلنا كل رسول منهم إلى قومه كهود إلى عاد وصالح إلى ثمود ، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام الذين كانوا في زمانه إلا شعيبا ، أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى جيرانهم أصحاب المؤتفكة لاتحادهما في اللغة والوطن ، وإنما أرسل محمد وحده إلى الناس كافة ( فجاءوهم بالبينات ) أي فجاء كل رسول منهم قومه بالبينات الدالة على رسالته وصحة ما دعاهم إليه ، بحسب أفهامهم وأحوالهم العقلية : ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ) أي فما كان من شأنهم أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل ممن كان مثله في سبب كفره ، وهو استكبار الرؤساء ، وتقليد الدهماء للآباء والأجداد ( كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) أي مثل هذا الطبع ، وعلى غرار هذه السنة التي اطردت فيهم ، ( نطبع على قلوب المعتدين ) مثلهم في كل قوم كقومك أيها الرسول إذا كانوا مثلهم : ( ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ( 17 : 77 ) و ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ( 33 : 62 ، 48 : 23 ) فأما فهو عبارة عن عدم قبولها شيئا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها مما يخالفه كقبول الجاهل المقلد الدليل العلمي على بطلان اعتقاد التقليدي ورجوع المعاند عن عناده وكبره النفسي ( وقد تقدم تفصيله في تفسيرها ما سبق فيه من الآيات في سور النساء والأعراف والتوبة ، ومثله تفسير : ( الطبع على القلوب ختم الله على قلوبهم ) في أوائل سورة البقرة آية ( 7 ) .
وأما الاعتداء الذي صار وصفا ثابتا لهؤلاء ( المعتدين ) فمعناه تجاوز حدود الحق والعدل اتباعا لهوى النفس وشهواتها ، فالطبع المذكور أثر طبعي للحالة النفسية التي عبر عنها بوصف الاعتداء ، وليس عقابا أنفا ( بضمتين أي جديدا ) خلقه الله لمنعهم من الإيمان ، إذ لو كان كذلك لكانوا معذورين بكفرهم ولما كان فيه عبرة لغيرهم ، بل لكان حجة لهم ، وقد فهمت قريش وسائر العرب ما لم يفهمه متكلمو الجبرية من هذه الآية وأمثالها ، وهو أنها وصف للعلة والمعلول ، والسبب والمسبب ، وسنته تعالى في دوام كل منهما بدوام الآخر ، لا بذاته وكونه خلقيا لا مفر منه ، بل المفر أمر اختياري ممكن ، وهو ترك المعاند لعناده والمقلد لتقليده ، إيثارا للحق الذي يقوم عليه الدليل ، فهموا هذا فاهتدى الأكثرون بالتدريج ، وهلك الذين استحبوا العمى على الهدى في غزوة بدر وغيرها .