الباب الثاني
في الوحي المحمدي وهو القرآن
، وإنما فتحنا له بابا خاصا ولم نذكره في صفاته عز وجل من الباب الأول ; لأن ما ورد فيه من الآيات ليس من ناحية كونه صفة له ، بل من ناحية كونه كتابا منزلا من عنده لهداية خلقه . وعقيدة الإيمان بكتبه تعالى في المرتبة الثانية بين الإيمان به والإيمان برسله ، ونلخص ما يختص بالقرآن من هذه السورة في عشر مسائل . القرآن من كلام الله تعالى
[ ص: 408 ] ( 1 ) افتتح الله هذه السورة بالإشارة إلى كتابه الحكيم في الآية الأولى منها ، وثنى في التي تليها بالإنكار على الناس عجبهم من وحيه إلى بشر منهم أن يكون هاديا لهم نذيرا وبشيرا . وقد بينا في تفسير هذه الآية دلائل هذا الوحي بإعجاز القرآن اللفظي والمعنوي ، وتفنيد شبهات الذين زعموا أنه وحي فاض من نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - وعقله الباطن على لسانه بإسهاب وإطناب ، فكان ذلك مصنفا مستقلا مستنبطا من جملة القرآن وعلومه وتأثيره في العالم ، فنشير إلى ما في هذه السورة منه بالإيجاز .
( 2 ) في الآية الخامسة عشرة منها اقتراح المشركين على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو أن يبدله ، وما أمره الله تعالى أن يجيبهم به من عجزه عن تبديله أو الإتيان بغيره ، وكونه لا يملك من أمره فيه إلا اتباع ما يوحى إليه من تبليغه والعمل به ( ومثله في آخر السورة ) .
( 3 و 4 ) في الآية السادسة عشرة أنه - صلى الله عليه وسلم - ما بلغهم هذا القرآن إلا بمشيئة الله تعالى وتسخيره ، فلو شاء تعالى ألا يتلوه عليهم لما تلاه ، ولو شاء تعالى ألا يدريهم ولا يعلمهم به لما أدراهم : فهو الذي أقرأه بعد أن لم يكن قارئا : ( اقرأ باسم ربك ) ( 96 : 1 ) و ( سنقرئك فلا تنسى ) ( 87 : 6 ) وهو الذي علمه وجعله معلما ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ) ( 4 : 113 ) و ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) ( 42 : 52 ) إلخ .
( 5 ) أنه أيد هذا بالحجة العقلية القاطعة ، وهو أنه قد لبث فيهم عمرا طويلا من قبله ، وهو سن الإدراك والصبا فالشباب حتى بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ، لا يقرأ ولا يقرئ ، ولا يتعلم ولا يعلم ، وقد بينا في تفسيرها ( أي الآية 16 ) أنه ثبت عند حكماء التاريخ بالتجارب والاستقراء أن جميع معارف البشر الكسبية واستعدادهم للعلم والعمل ، إنما يظهران ويبلغان أوج قوتهما من النشأة الأولى إلى منتصف العشر الثالث من العمر ، ولا يكون بعده إلا التمحيص والتكميل ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يظهر منه علم ولا بيان ولا عمل إصلاحي عام ديني أو دنيوي إلا بهذا الوحي الذي فوجئ به بعد استكمال الأربعين ،
ويليها في الآية 17 أن أشد الناس ظلما لنفسه من افترى على الله كذبا بآيات الله ، وأنه من المجرمين الذين لا يفلحون ، فهل يرتكب هذا الظلم من يعلم هذا ؟ ولماذا يرتكبه وقد عرف قبحه كبيرا ، بعد أن نشأ على التزام الصدق صغيرا ، واشتهر به وبالوفاء عند المعاشرين ، حتى لقبوه بالأمين ؟ .
( 6 ) في الآية الثامنة والثلاثين حكاية عن المشركين : ( أم يقولون افتراه ) وأمره تعالى لنبيه بتحديهم بالإتيان بسورة مثله ، ودعوة من استطاعوا من دون الله الذي أنزله [ ص: 409 ] بعلمه ، ولا يقدر عليه أحد من خلقه ، وإلا كانوا كاذبين في زعمهم أنه افتراه ; إذ لا يعقل أن يفتري الإنسان ما هو عاجز كغيره عنه ، وقد بينا في تفسيرها معنى التحدي والعجز ، وموضوع الإعجاز اللفظي والمعنوي ، وهل يدخل فيه قصار السور مطلقا أو مقيدا ؟ ( راجع تفسيرها تجد فيه ما لا تجده في غيره ) .
( 7 و 8 ) في الآية 39 ذكر إضرابهم عن التكذيب المطلق الذي يتضمنه ذلك القول ، إلى التكذيب المقيد بما لم يحيطوا بعلمه ، وفي الآية 40 كونهم فريقين : منهم من يؤمن به ، ومنهم من لا يؤمن به ، وفي تفسير الأولى منهما تحقيق معنى تأويل القرآن ، وخطأ أكثر المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم في فهم التأويل بحمله على التأويل الاصطلاحي عند علماء الكلام والأصول ، حاش الإمام . محمد بن جرير الطبري
( 9 ) في الآية 57 بيان أنواع إرشاد القرآن وإصلاحه وهو قوله : ( ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) .
( 10 ) في الآيتين 108 و 109 وهما خاتمة السورة خلاصة تبليغ الدعوة ، وموضوع الأولى في خطاب الناس كافة أنه قد جاءهم الحق من ربهم ، وهم مختارون في الاهتداء به والضلال عنه ، وموضوع الثانية أمر الرسول باتباع ما يوحى إليه تبليغا وعملا ، كما تقدم في المسألة الثانية .