ثم قال تعالى : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ) الآية الماضية في حكم غير الممسوسة إذا لم يفرض لها ، وهذه في حكمها وقد فرض لها المهر ، وهو أن لها نصف المهر المفروض .
قال ( الجلال ) : فنصف ما فرضتم يجب لهن ويرجع لكم النصف .
قال الأستاذ الإمام : وهذا جرى على أن الذي كان عليه العمل هو ، خلافا لما استحدثه الناس بعد من تأخير ثلث المهر أي في الغالب ، وقد يؤخرون أكثر من الثلث أو أقل حتى كأن ذلك من سنن الدين ، وما هو إلا عادة من العادات ، والظاهر أن سببها حب الظهور بكثرة المهر والفخر به ، مع اجتناب الإرهاق بدفعه كله . وقدر غير سوق المهر كله للمرأة عند العقد الجلال : فالواجب نصف ما فرضتم - أو - فادفعوا نصف ما فرضتم ، والمعنى ظاهر على كل تقدير ( إلا أن يعفون ) أي : النساء المطلقات عن أخذ النصف كله أو بعضه ، وهو حق البالغة الرشيدة ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) قيل : هو الولي مطلقا وعليه جماعة من المفسرين ، أو الولي المجبر وهو الأب أو الجد فيعفو له عن النصف الواجب كله أو بعضه ، والشيعة لا تبيح له العفو عن كله ، وقال كثير منهم : إن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج الذي بيده حلها ، قال الأستاذ الإمام : عبر عنه بهذا للتنبيه على أن الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده لا يليق به أن يحلها ويدعها بدون شيء ، بل يستحب له العفو والسماح بكل ما كان قد أعطى وإن كان الواجب المحتم نصفه ، فذلك تمهيد لقوله : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [ ص: 343 ] والخطاب على هذا خاص بالرجال ، وفيه وجه آخر أنه عام للنساء والرجال ، أي من عفا فهو المتقي ، ويروى عن أنه تزوج بنتا جبير بن مطعم ثم طلقها قبل الدخول وأعطاها جميع المهر ، فسئل عن هذا فقال : أما التزوج فلأنه عرضها علي فما رأيت أن أرده ، وأما العفو فأنا أحق بالفضل . هكذا قال من روى القصة بالمعنى ، وفي التفسير الكبير أن لسعد بن أبي وقاص جبيرا قال : أنا أحق بالعفو ، وإذا كان هذا لفظه فهو دليل على أن الخطاب عام على سبيل التغليب ، ويرجحه اختلاف الأحوال ، ففي بعض الأحوال تكون المصلحة في عفو الرجل عن النصف الآخر ، وفي بعضها تكون في عفو المرأة عن النصف الواجب لها; ذلك لأن الطلاق قد يكون من قبله بلا علة منها وقد يكون بالعكس ، والذي تراه في عامة كتب التفسير أن المراد بالتقوى هنا تقوى الله تعالى المطلوبة في كل شيء; وذلك أن العفو أكثر ثوابا وأجرا .
وقال الأستاذ الإمام : إن التقوى في هذا المقام اتقاء الريبة وما يترتب على الطلاق من التباغض وآثار التباغض ، ولا يخفى ما في السماح بالمال من التأثير في تغيير الحال; ولذلك قال بعد ذلك : ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) فسروا الفضل بالتفضل والإحسان ، وجعلوه للترغيب في العفو . وقال الأستاذ الإمام : المراد به المودة والصلة ، أي ينبغي لمن تزوج من بيت ثم طلق ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم ، قال : فأين هذا مما نحن عليه اليوم من التباغض والضرار ؟ !
على هذا السياق جرى في تفسير الآية ، وهو مما لا يقف الذهن فيه إلا من كان مطلعا على وجوه الخلاف في الذي بيده عقدة النكاح ، يقول القائلون بأنه الولي : إنه هو الذي يتولى العقد شرعا وعرفا ، وقد يتولى العفو عن نصف المهر بالنيابة عن موليته إذا هي طلقت ، ولا سيما إذا كانت غير مدخول بها ، ولا حديث بينها وبين الزوج ولا معاملة ، وإن لا يسمى عفوا وإنما يسمى هبة ، وإنه كان من مقتضى السياق أن يقال - لو أريد الزوج - : ( ( إلا أن يعفون أو تعفوا أنتم ) ) ، وإن عقدة النكاح لم تبق في يد الزوج بعد الطلاق ، ويقول الذاهبون إلى أنه الزوج : إن الولي بيده عقد النكاح لا عقدته التي هي أثر العقد ، وإنه ليس للولي أن يسمح بشيء من مال موليته; لأنها هي المالكة المتصرفة من دونه ، وأنت ترى الجواب من كل جانب عما أورده الآخر سهلا، والخطب أسهل ، فالمعنى المراد أن الواجب نصف المهر إلا أن يسمح الرجل به كله ، وسمى سماحه بالنصف الآخر عفوا; لأن المعهود أنهم كانوا يسوقون جميع المهر عند العقد كما تقدم ، أو تعفو المرأة بنفسها أو بواسطة وليها عما يجب لها فلا تأخذ منه شيئا ، فأي الفريقين عفا فعفوه أقرب إلى التقوى ، والقائلون بأن الذي بيده عقد النكاح هو الزوج أكثر كما تشعر به العبارة السابقة ، ويروى فيه حديث مرفوع عند تبرع الزوج بالنصف الآخر من المهر ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي .
[ ص: 344 ] وقد ختمت الآية بقوله تعالى : ( إن الله بما تعملون بصير ) جريا على السنة الإلهية بالتذكير والتحذير بعد تقرير الأحكام; لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذي الإيمان وتبعث على الامتثال .
وفي التذكير باطلاع الله تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا ترغيب في المحاسنة والفضل ، وترهيب لأهل المخاشنة والجهل .
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بعد تفسير هذه الآيات ما معناه : من تدبر هذه الآيات وفهم هذه الأحكام يتجلى له نسبة مسلمي هذا العصر إلى القرآن ، ومبلغ حظهم من الإسلام .
قال : وأخص المصريين بالذكر; فإن الروابط الطبيعية في النكاح والصهر وسائر أنواع القرابة صارت في مصر أرث وأضعف منها في سائر البلاد ، فمن نظر في أحوالهم وتبين ما يرجى بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات والمضارات ، وما يكيد بعضهم لبعض ، يخيل إليه أنهم ليسوا من أهل القرآن ، بل يجدهم كأنهم لا شريعة لهم ولا دين بل آلهتهم أهواؤهم ، وشريعتهم شهواتهم ، وأن حال المماكسة بين التجار في السلع هي أحفظ وأضبط من حال الزواج ، وأقوى في الصلة من روابط الأزواج . وسرد في الدرس وقائع تؤيد ما ذكره ( منها ) أن رجلا هجر زوجته - وهي ابنة عمه وله منها بنت - بغير ذنب غير الطمع في المال ، فكان كلما كلموه في شأنها قال : لتشتر عصمتها مني . ( ومنها ) ما هو أدهى من ذلك وأمر كالذين يتركون نساءهم بغير نفقات حتى قد يضطروهن إلى بيع أعراضهن ، وكالمطلقات المعتدات بالقروء يزعمن أن حيضهن حبس ، فتمر السنون ولا تنقضي عدتهن بزعمهن ، وما الغرض إلا إلزام المطلق النفقة طول هذه المدة انتقاما منه ، وكالذين يذرون أزواجهم كالمعلقات لا يمسكونهن بمعروف ولا يسرحونهن بإحسان ، أو يفتدين منهم بالمال ، فأين الله وأين كتاب الله وشرعه من هؤلاء وأين هم منه ؟ إنهم ليسوا من كتاب الله في شيء ، ولكن المسرفين أهواءهم يتبعون .