وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم .
[ ص: 70 ] أخرج عن ابن أبي شيبة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سعيد بن جبير لا تصدقوا إلا على أهل دينكم فأنزل الله - تعالى - : ليس عليك هداهم وأخرج وغيره عن ابن أبي حاتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس كان يأمرنا ألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية وأخرج عنه أنه قال : " ابن جرير كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة ، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت " والمعنى أن هذه الوقائع تقدمت نزولها ، فلما نزلت كانت فصلا فيها وإلا فهي مرتبطة بما قبلها ، وما قبلها نزل في الفقراء عامة .
قال الأستاذ الإمام : إن الآية السابقة قد أطلقت إيتاء الفقراء وجعلته على عمومه الشامل للمؤمن والكافر ، وقد أرشد الله المسلمين في هذه الآية إلى عدم التحرج من الإنفاق على المشركين لأنهم غير مهديين ; فإن الرحمة بالفقير وسد خلته لا ينبغي أن تتوقف على إيمانه ، بل من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما ، وأن يكون سابقا لسائر الناس بالكرم والفضل .
أقول : والخطاب على ما ورد في حديث سعيد وحديث الأول خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لنهيه عن الإنفاق ، وعلى هذا فالتوجيه عام موجه إلى المؤمنين كافة وإن جاء بضمير المخاطب المفرد ، ويؤيده كونه في سائر الآية بضمائر جمع المخاطبين ، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكلف هداية الكافرين بالفعل وإنما كلف البلاغ فقط ، وأعلم أن أمر الناس في الاهتداء مفوض إلى ربهم ، وما وضعه لسير عقولهم وقلوبهم من السنن فغيره أولى بألا يكلف ذلك ، فليس علينا إذا أن نمنع الخير عن الكافر عقوبة له على كفره أو جذبا له إلى الإيمان واضطرارا له إلى الهداية ، فإن الهداية ليست علينا ابن عباس ولكن الله يهدي من يشاء بتوفيقه إلى النظر الصحيح المؤدي إلى الاعتقاد الجازم الذي يثمر العمل . وأما الباعث على الإنفاق فيجب أن يكون ما أرشدنا إليه - سبحانه - في قوله : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم إلخ . قالوا : معنى هذا أن نفع الإنفاق في الآخرة خاص بكم ، هكذا صرح بعضهم بتقييد النفع بالآخرة : وقال الأستاذ الإمام هنا : أي لأن نفعه عائد عليكم في الدنيا والآخرة .
وسيأتي أنه يجعله خاصا بالدنيا ، ومعنى كونه خيرا في الدنيا أنه يكف شر الفقراء ويدفع عنهم أذاهم فإن الفقراء إذا ضاق بهم الأمر واشتدت بهم الحاجة يندفعون إلى الاعتداء على أهل الثروة بالسرقة والنهب والإيذاء بحسب استطاعتهم ، ثم يسري شرهم إلى غيرهم ، وربما صار فسادا عاما بسوء القدوة ، فيذهب بالأمن والراحة من الأمة ، وقد تقدم لهذا الكلام نظير في موضع آخر . ( قال ) وقوله - تعالى - : وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله قد يكون خيرا على ظاهره ، أي لا تنفقون لأجل جاه أو مكانة عند المنفق عليه ، وإنما تنفقون لوجه الله فلا فرق بين معط ومعطى إلا إذا كان الفقير مستحقا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزاق [ ص: 71 ] الرحيم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لاعتقاده . أقول : ويؤيده قوله كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا [ 17 : 20 ] قال : وفي كون الإنفاق لا يكون إلا لوجه الله إشارة إلى أن إذا كان إعانة لهم على إيذاء المسلمين لا يكون جائزا ; لأنه لا يكون مرضيا لله - تعالى - يبتغي به وجهه ، وأكثر المفسرين على أنه خبر بمعنى النهي ، أي لا تنفقوا إلا لوجهه وابتغاء مرضاته - عز وجل - . الإنفاق على الكافرين
ثم قال في قوله - تعالى - : وما تنفقوا من خير يوف إليكم أي في الآخرة لا ينقصكم منه شيء ، وعد أولا بأن في الدنيا بقوله : خير الإنفاق عائد على المنفقين فلأنفسكم ثم وعد بالجزاء عليه في الآخرة موفى تاما ، وقال : وأنتم لا تظلمون أي لا تنقصون من الجزاء عليه شيئا ولو نقيرا أو فتيلا . أقول : وقد رأيت أنه جعل هنا قوله - تعالى - : فلأنفسكم خاصا بالدنيا ، وما نقلناه عنه أولا من أنه عام قد قاله في الدرس ، فهل كان سبق لسان أم رجع عنه عند تمام تفسير الآية ، وكيف فاتنا أن نسأله عن ذلك ؟ هذا ما وجدته في مذكرتي لا أذكر شيئا غير ذلك .
أقول : والذي كان تبادر إلى فهمي من قوله - تعالى - : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله أنه بمعنى الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم [ 2 : 265 ] أي إن أي نفقة من الخير أنفقتم فهي تفيدكم في تثبيت أنفسكم في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان ، والحال أنكم ما تنفقون ذلك إلا ابتغاء وجه الله وإرادة رضوانه ، ومتى كان الإنفاق كذلك كان مزكيا ومثبتا للنفس معدا لها ، ومؤهلا لرضوان الله لا يمنع من ذلك كون المنفق عليه مؤمنا أو كافرا ; إذ الإنفاق ليس لأجل التقرب إليه وابتغاء الأجر منه ، وبعد أن ذكر الفائدة الذاتية للإنفاق في نفس المنفق ذكر الجزاء عليه بقوله : وما تنفقوا من خير إلخ . أي وإنكم على استفادتكم من الإنفاق في أنفسكم بترقيتها وجعلها مستحقة لقرب الله ورضوانه ، لا يضيع عليكم ما تنفقونه ، بل توفونه لا تظلمون منه شيئا ، ويدخل في ذلك الأجر عليه في الدنيا والآخرة والكلام على هذا التفسير أشد التئاما وأحسن نظاما ، فالجملتان الشرطيتان فيه متعاطفتان ، وقوله : وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله جملة حالية قيد في الشرطية الأولى ; وللإنفاق على هذا فائدتان :
أولاهما: وهي المقصودة بالذات : تثبيت نفس المنفق وترقيتها بالإخلاص لله ابتغاء وجهه .
والأخرى : الثواب عليه في الدنيا والآخرة وهي دون الأولى عند العارفين .
وابتغاء وجه الله بالعمل هو أن يعمل له دون سواه تقربا إليه وإرضاء له لذاته لا للتشوف إلى شيء آخر ، كأن المراد بذلك عرضه عليه ومقابلته به فقط ، ولا يفهم هذا حق فهمه إلا من عرف مراتب الناس ومقاصدهم في خدمة الملوك ، ذلك أن منهم من يعمل للملك [ ص: 72 ] خوفا من العقوبة على ترك ما فرضه عليه قانونه أو التقصير فيه ، ومنهم من يعمل لأجل اقتضاء الأجر الذي فرض للعمل فهو لا يفكر في غيره ، ومنهم من يعمل فيجيد العمل لأجل الارتقاء من جزاء إلى أكبر منه ، ومنهم - وهو أعلاهم مرتبة - من يعمل العمل الحسن المرضي للملك لأجل أن يكون في نظره محسنا عارفا قيمة العمل الذي أمر به وما وراءه من الحكمة التي كانت علة الأمر فمثل هذا يصح أن يقال فيه : إنه مبتغ وجه الملك ، أي أن يكون في الجهة التي يراه فيها محسنا ، فإن من يتعرض لأن يرى فإنما يأتي من تلقاء الوجه ، ومن الناس من يعمل العمل لا يبتغي به إلا أن يواجه الناس - لا الملوك خاصة - بما يعتقدون أنه كمال لا يبتغي غير ذلك من جلب نفع أو دفع ضر ، فأرشد الله الإنسان أن يكون في عمله الصالح مع الله - تعالى - كذلك ، أي أن يكمل نفسه بالعمل ويبتغي أن يراه الله - تعالى - كاملا يعمل العمل لأنه حسن ، تتحقق به حكمته - تعالى - ، وتقوم به سننه في صلاح البشر ، ولك أن تقول : إن معنى ابتغاء وجه الله - تعالى - هو طلب إقباله ومحبته للعامل ، قال - تعالى - حكاية عن إخوة يوسف : اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم [ 12 : 9 ] فمعنى خلو وجهه لهم ألا يشاركهم في إقباله عليهم ومحبته لهم مشارك ، ولبعض الصوفية منزع دقيق في معنى وجه الله ، وهو أن لكل شيء وجهين :
وجها إلى هذا العالم الحادث ، وهو ما يكون عليه فيه ولا بقاء له ; لأن جميع المحدثات عرضة للزوال .
ووجها إلى الدوام والبقاء وهو وجه الله - تعالى - ، فمعنى وجه الله بالاتفاق على هذا المنزع ، أن يقصد به ثمرته الدائمة في الآخرة ، وهي إنما تكون بارتقاء النفس في الكمال الذي يؤهلها للبقاء في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
إذا فهمت هذا علمت أنه لا حاجة هنا إلى إيراد طريقتي السلف والخلف في المتشابهات وآيات الصفات ، كأن نقول : إن الوجه صفة لله - تعالى - أو إنها كناية عن الذات ، حتى يكون المعنى على الأول وما تنفقون إلا ابتغاء صفة الله التي سماها وجها ، وآمنا بها مع تنزيهه - تعالى - عن صفات المحدثين ، وعلى الثاني وما تنفقون إلا ابتغاء ذات الله - تعالى - . هذا ما لا يظهر معه للآية معنى ، وكل ما ذكرناه في تفسيرها أظهر منه وأجلى ، وقد رأيت أن الأستاذ اكتفى - كالمفسرين - بجعله معنى مرضاة الله - تعالى - ، وهو صحيح .