آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين
[ ص: 119 ] قيل : إن الآيتين متعلقتان بما قبلهما لما فيه من ذكر كمال الألوهية الذي يقابله من كمال الإيمان والدعاء ما يناسبه أو لما فيه من ذكر الحساب والعلم بالخفايا المقتضي للإيمان والدعاء . وقيل : إنه لما افتتحت هذه السورة ببيان كون القرآن لا ريب فيه وكونه هدى للمتقين ، وذكر صفات هؤلاء المتقين وأصول الإيمان التي أخذوا بها وخبر سائر الناس من الكافرين والمرتابين ، ثم ذكر فيها كثيرا من الأحكام ومحاجة من لم يهتد به من بعض الأمم ، ناسب بعد هذا كله ختم السورة بالشهادة للمؤمنين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان وهم المهتدون تمام الاهتداء ، ولقنهم من الدعاء ما ستعلم حكمته وهذا الوجه الذي اختاره الأستاذ الإمام قال تعالى :
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون أي صدق الرسول بما أنزل إليه في هذه السورة وغيرها من العقائد والأحكام والسنن والبينات والهدى تصديق إذعان واطمئنان وكذلك المؤمنون من أصحابه - عليهم الرضوان وقد شهد لهم بهذا الإيمان أثره في نفوسهم الزكية وهممهم العلية ، وأعمالهم المرضية والله أكبر شهادة ، وقد اعترف كثير من علماء الإفرنج الباحثين في شئون المسلمين وعلومهم وسائر شئون أمم الشرق بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على اعتقاد جازم بأنه مرسل من الله وموحى إليه ، وكانوا من قبل متفقين على أنه ادعى الوحي ؛ لأنه رآه أقرب الطرق لنشر حكمته والإقناع بفلسفته أو لنيل السلطة وهو غير معتقد به كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وقرأ حمزة ( وكتابه ) أي كل منهم آمن بوجود الله ووحدانيته وتنزيهه وكمال صفاته وحكمته وسننه في خلقه ، وبوجود الملائكة الذين هم السفراء بين الله وبين الرسل من البشر ينزلون بالوحي على قلوب الأنبياء .
قال المفسرون : ليس الإيمان بذواتهم ، بل الإيمان بسفارتهم في الوحي ، كما يفهم من النظم والترتيب ; ولذلك عطف عليهم الإيمان بحقية كتبه وصدق رسله ، لكن ما يفيده الترتيب والنظم من إرادة الإيمان بالملائكة من حيث هم حملة الوحي إلى الرسل لا ينافي ملاحظة الإيمان بهم من حيث هم من عالم الغيب بل يستلزمه ، وأما البحث عن ذواتهم ما هي وعن صفاتهم وأعمالهم كيف هي ؟ فهو مما لم يأذن به الله في دينه . المراد بالإيمان بالملائكة جنسها ; أي يؤمنون بذلك إيمانا إجماليا فيما أجمله القرآن وتفصيليا فيما فصله لا يزيدون على ذلك شيئا ويقولون : والمراد بالإيمان بالكتب والرسل لا نفرق بين أحد من رسله قرأ يعقوب وأبو عمرو في رواية عنه ( لا يفرق ) وهو يعود على لفظ " كل " وذكر المقول مع حذف القول كثير في الكلام البليغ ، وله مواضع في الكتاب لا يقف الفهم في شيء منها .
قال الأستاذ الإمام : والمعنى أن من شأن المؤمنين أن يقولوا هذا معتقدين أنهم في الرسالة والتشريع سواء ، كثر قوم الرسول منهم أم قلوا ، وكثرت الأحكام المنزلة عليه أم قلت ، [ ص: 120 ] وتقدمت البعثة أم تأخرت . وهذا لا ينافي قوله - تعالى - : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ 2 : 253 ] فإن التفضيل ليس في أصل الرسالة والوحي كما تقدم في تفسير الآية . أقول : وفي هذا مزية للمؤمنين من هذه الأمة على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسله . ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كأنهم لم يعقلوا معنى الرسالة في نفسها إذ لو عقلوها لما فرقوا بين من أوتوها ، وقد رأيت غير واحد من أذكياء النصارى يدرك هذه المزية .
آمنوا بما ذكر قائلين بعدم التفريق : وقالوا سمعنا وأطعنا أي بلغنا فسمعنا القول سماع وعي وفهم ، وأطعنا ما أمرنا به فيه ، إطاعة إذعان وانقياد . قال الأستاذ الإمام في الدرس : وقد بينا لكم مرارا أن فرقا بين إيمان الإذعان وبين ما يسميه الإنسان إيمانا واعتقادا ؛ لأنه نشأ عليه وقبله بالتقليد ولم يسمع له ناقضا ، فمثل هذا ليس اعتقادا حقيقيا ، وقلما ينشأ عنه عمل ؛ لأنه تقليد ، بقاؤه في الغفلة عن ناقضه ، والإذعان ينبه النفس دائما إلى ما تذعن له ، ويبعثها دائما إلى العمل به إلا إذا عرض ما لا يسلم منه المرء من الموانع ; ولهذا عطف أطعنا على سمعنا . ولما كان العامل المذعن المخلص يراقب قلبه ويحاسب نفسه على التقصير الذي تأتي به العوارض الطارئة ويلومها على ما دون الكمال من الأعمال كان من شأن المؤمنين أن يقولوا مع السمع والطاعة : غفرانك ربنا وإليك المصير أي يسألونه - تعالى - أن يغفر لهم ما عساه يطرأ على أنفسهم فيعوقها عن الرقي في معارج الكمال الذي دعاها إليه الإيمان بها ، والغفران كالمغفرة : الستر ، وستر الذنب يكون بعدم الفضيحة عليه في الدنيا وترك الجزاء عليه في الآخرة ، وإنما يطلب هذا بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة مع الدعاء الذي يزيد في الإيمان وبذلك يمحى أثر الذنوب من النفس في الدنيا فيرجى أن تصير إليه - تعالى - في الآخرة نقية زكية ؛ لأن هذا المصير إليه وحده هو الذي يكون وراءه الجزاء بحسب درجات النفوس في معارج الكمال .