( النوع الثاني حب البنين ) أي الأولاد ، فاكتفى بذكر ما كان حبه أقوى والفتنة به أعظم على طريق التغليب أو لدلالة ما حذف فيما قبله عليه كدلالته هو على ما حذف مما قبله على طريق الاحتباك أو شبه الاحتباك ، وأخر في الذكر عن حب النساء لما تقدم ولتأخره في الوجود إذ الأولاد من النساء . قلنا : إن العلة الطبيعية لحب النساء أو الأزواج هي داعية النسل ، فهذه الداعية تحدث في النفس انفعالا يحفز صاحبه إلى الزواج . وأما فيكاد يكون كحب النفس لا علة له غير ذاته إلا أن نقول : إن عاطفة رحمة الوالدين بالولد - منذ يولد - هي غير عاطفة حبهما له وهي علته ، ولكن حكمة الخالق في حب الزوجية وحب الولد واحدة ، [ ص: 199 ] وهي تسلسل النسل وبقاء النوع وهي حكمة مطردة في غير الناس من الأحياء . هذا هو حب الولد من حيث هو ولد ، وقد يكون للولد محبات أخرى في قلوب الوالدين كحب الأمل في نصرته ومعونته وحب الاعتزاز به ، وهذا مما يشارك الأولاد فيه غيرهم وإن كان يكون فيهم أقوى ; لأن وجوه المحبة إذا تعددت يغذي بعضها بعضا ، وحب الولد من حيث هو ولد يظهر في وقت ذهاب الأمل في فائدته بأشد مما يظهر مع الأمل فيها كحال الصغر والمرض ، وقد قيل لبعض أصحاب الفطرة السليمة : أي ولدك أحب إليك ؟ فقال : صغيرهم حتى يكبر ، وغائبهم حتى يحضر ، ومريضهم حتى يبرأ . حب الأولاد
أما كون حب البنين أقوى والتمتع به أعظم فله أسباب :
( منها ) : الأمل في نصرة الذكر وكفالته عند الحاجة إليه في الضعف والكبر ، وقد قلنا آنفا : إن الحب أنواع يغذي بعضها بعضا .
( ومنها ) : كونه في عرف الناس عمود النسب الذي تتصل به سلسلة النسل ، ويبقى به ما يحرصون عليه من الذكر .
( ومنها ) : أنه يرجى به من الشرف ما لا يرجى من الأنثى ، كقيادة الجيش وزعامة القوم والنبوغ في العلوم والأعمال .
( ومنها ) : ما مضى به العرف من اعتبار نقص الأنثى وخروجها عن الصيانة مجلبة لأكبر العار ، وتوقع ذلك أو تصور احتماله يذهب بشيء من غضاضة الحب فيلحقه الذبول أو الذوي .
( ومنها ) : الشعور بأن الأنثى إنما تربى لتنفصل من بيتها وعشيرتها وتتصل ببيت آخر تكون عضوا من عشيرته ، فما ينفق عليها وما تعطاه يشبه الغرم وخدمة الغرباء ، فمن تأمل هذه الفروق الوجودية - وإن لم تكن كلها طبيعية - ظهر له وجه تخصيص البنين بالذكر ، ووجه كمال التمتع بهم وكونهم هم الذين قد يغتر بهم الوالد حتى يستغني بهم أو يشتغل بهم وبالجمع لهم عن الحق وينسى الآخرة ; على أن حب الوالدية الخالص للبنات قد يكون مساويا أو أقوى من حب البنين ، ولكن ما يغذيه ويقويه أقل فهو مثار للفتنة ، كما قال - تعالى - : إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ 64 : 15 ] ، فذكر الأولاد عامة ولذلك قلنا بأن تخصيص البنين بالذكر ليس للحصر .
وقال الأستاذ الإمام : لمحبة الولد طوران : طور الصغر وهو حب ذاتي لهم لا علة له ولا فكر فيه ولا عقل ولا رأي ، بل هو جنون فطري ورحمة ربانية عامة لجميع الحيوانات لا فرق فيها بين الإنسان والهرة ، والطور الثاني حب معلول معه فكر وهو المراد بالآية ، وهو حب الأمل والرجاء بالولد ; ولذلك كان خاصا بالبنين ، وإنما الحب على قدر الأمل ، فإذا خاب يضعف الحب ويرث ، وربما انقلب إلى عداوة تستتبع التقاضي وطلب العقاب أو الغرامة [ ص: 200 ] كما يقع كثيرا . فرأيه أن لفظ " البنين " لا تغليب فيه ولا احتباك في مقابلة ما قبل ، وكأنه رأى أن في هذا تكلفا لا حاجة إليه في العبرة .