إن الدين عند الله الإسلام قرأ الجمهور ( إن ) بالكسر على أن الجملة مستأنفة ، وقرأها بالفتح على أنها تعليل للشهادة بالتوحيد ، أي شهد الله أنه لا إله إلا هو ; لأن الدين عند الله هو الإسلام له وحده ، أو عطف على ( أنه ) أو بدل منه . الكسائي
أقول : : الجزاء والطاعة والخضوع ، أي سبب الجزاء ، ويطلق على مجموع التكاليف التي يدين بها العباد لله فيكون بمعنى الملة والشرع . وقالوا : إن ما يكلف الله به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه ، ويسمى دينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع به ، ويسمى ملة باعتبار جملة التكاليف ، والإسلام مصدر أسلم وهو بيان يأتي بمعنى خضع واستسلم ، وبمعنى أدى ، يقال أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه ، وبمعنى دخل [ ص: 212 ] في السلم وهو بالفتح والكسر بمعنى الصلح والسلامة ، وبالتحريك [ بمعنى ] الخالص من الشيء ، ومنه قوله - تعالى - : الدين في اللغة ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل [ 39 : 29 ] أي خالصا له لا يشاركه فيه من يشاكسه ، وتسمية دين الحق إسلاما يناسب كل معنى من معاني الكلمة في اللغة ، وأظهرها آخرها في الذكر لا سيما في هذا المقام ، ويؤيده الآية الآتية وقوله - تعالى - : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا [ 4 : 125 ] وقد وصف إبراهيم بالإسلام في عدة سور ، ووصف غيره من النبيين بذلك ، فعلم بذلك أن الحصر في قوله : إن الدين عند الله الإسلام يتناول جميع الملل التي جاء بها الأنبياء ; لأنه هو روحها الكلي الذي اتفقت فيه على اختلاف بعض التكاليف وصور الأعمال فيها ; وبه كانوا يوصون . راجع تفسير ( 2 : 128 و 131 - 133 ) والأستاذ الإمام لم يقل هنا إلا بعض ما قاله هناك ، وبذلك كله تعلم أن المسلم الحقيقي في حكم القرآن من كان خالصا من شوائب الشرك بالرحمن ، مخلصا في أعماله مع الإيمان ، من أي ملة كان ، وفي أي زمان وجد ومكان ، وهذا هو المراد بقوله - عز وجل - : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ 3 : 85 ] الآية وستأتي ، ذلك أن : الله - تعالى - شرع الدين لأمرين أصليين
( أحدهما ) : تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بالسلطة الغيبية للمخلوقات ، وقدرتها على التصرف في الكائنات ; لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هو من أمثالها ، أو لما دونها في استعدادها وكمالها .
( وثانيهما ) : إصلاح القلوب بحسن القصد في جميع الأعمال ، وإخلاص النية لله وللناس ، فمتى حصل هذان الأمران انطلقت الفطرة من قيودها العائقة لها عن بلوغ كمالها في أفرادها وجمعياتها ، وهذان الأمران هما روح المراد من كلمة الإسلام ، وأما أعمال العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الأمري في الروح الخلقي ; ولذلك شرط فيها النية والإخلاص ومتى تربى سهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الأدبية والمدنية التي يصل بها إلى المدينة الفاضلة وتحقيق أمنية الحكماء .
آه ما أشد غفلة الناس عن حقيقة الإسلام ؟ ! أي سعادة للناس تعلو عرفان كل فرد من أفرادهم أنه أوتي من الاستعداد ما أوتيه من يوصفون بالولاية والقداسة ويدلون بالزعامة والرياسة ، فمنهم من يستعبد بها الناس استعبادا روحانيا ، ومنهم من يستعبدهم بها استعبادا سياسيا ، وإخلاص كل فرد من أفرادهم في عمله الديني وعمله الدنيوي للناس ، هذه السعادة هي روح الإسلام وحقيقته حجبتها عن بعضهم الرسوم العلمية والتقاليد المذهبية ، وعن آخرين النزعات النظرية والتقاليد الوضعية ، فالأولون يرمون بالكفر أو البدعة كل من خالف مذاهبهم ، والآخرون ينبذون بالغباوة والتعصب كل من لم يستعذب مشربهم ، فمتى يكثر المسلمون [ ص: 213 ] الخالصون المخلصون للأولين والآخرين ، فيكونوا حجة الله عليهم وعلى جميع العالمين ، وآية الوحدة الفاضحة للمختلفين ؟ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم قيل : إن المراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة ، وقيل النصارى خاصة ، ويدعم هذا القول : أن الآيات نزلت في نصارى نجران كما تقدم . والصواب : أنها عامة لا تخص فريقا دون آخر ، والجملة بيان لسبب خروج أهل الكتاب عن الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على ما تقدم في الجملة الأولى ، فصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين ، والدين واحد لا تفرق فيه ولا مثار للاختلاف بله الاقتتال ، وهذا السبب هو البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء كما فصله الأستاذ الإمام تفصيلا في تفسير : كان الناس أمة واحدة [ 2 : 213 ] فليراجعه من لم يقرأه ، ومن كان على علم بالتاريخ وخاصة نشأة المذاهب في كل أمة ، وفشو البدع في كل ملة ، فهو الذي يفهم كنه المراد من هذه الآية ، فلولا بغي رؤساء الدين والدنيا ونصر مذهب على مذهب لما تعصب لكل مذهب يشتق من الدين شيعة تنصره وتؤيده في كل مسألة ، وتقاوم كل من يقاومه وتضلهم متوكئة على علم الدين ، ومستندة إلى نصوصه بتفسير بعضها بالرأي والهوى ، وتأويل بعضها وتحريفه ، أو يوافق المذهب المنتحل .
ويجب على المسلم ألا ينظم الآية في سمط أخبار التاريخ ، ولا في سلك علم الملل والنحل ، أو علم المناظرة والجدل ، بل يتلوها متذكرا أنها ما أنزلت إلا هداية وعبرة لمن يؤمن بالقرآن ; ليتقوا الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب اتباعا لسنن من قبلهم . نحن المسلمون نعتقد أن دين المسيح - عليه السلام - هو الإسلام الذي بينا معناه آنفا ، وأن أساسه التوحيد والتنزيه ، وأن الرؤساء الروحيين وغير الروحيين لا سيما الملوك والأحبار الرومانيين هم الذين بتفرقهم جعلوا ذلك الدين الإلهي الواحد مذاهب ينقض بعضها بعضا ، وأهله شيعا يفتك بعضهم ببعض ، وأنه لولا بغيهم لما تمزق شمل آريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد والتنزيه بعد فشو الشرك والتشبيه ، إذ حكم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة 325 م بمقاومة آريوس وإحراق كتبه وتحريم اقتنائها ، ولما انتشر تعليمه من بعده قضى تيو دو سيوس الثاني باستئصال مذهبه وإبادة الآريوسية بقانون روماني صدر في سنة 628م ، وبقيت مذاهب التثليث يكافح بعضها بعضا ، [ نحن ] نعيب ذلك عليهم ، ولكن يجب علينا ألا ننسى أنفسنا ولا يغيب عنا ما أصبنا به من الخلاف والتفرق عسى أن يسعى أهل الإيمان الصادق والغيرة في نبذ الاختلاف والشقاق ، والعود إلى الوحدة والاتفاق ، كما كنا على عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - ، وخلفائه الراشدين عليهم الرضوان .
[ ص: 214 ] ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدة الدين ووجوب الاعتصام به وحرمة الاختلاف والتفرق فيه ، وهي المراد بالعلم في قوله : إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فإن الله سريع الحساب يحاسب من كفر فيجازيه بما يستحق ، وقد تقدم تفسير سريع الحساب في سورة البقرة ( 2 : 202 ) فليراجع .
أما هذا الكفر فهو عبارة عن ترك الإذعان لهذه الآيات والامتثال لها ، ومن لوازمه تأويلها بما يصرفها عن معناها لتوافق مذاهب أهل التأويل .
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه في دينهم وما اعتادوه من التحريف والتأويل ، وإلى الرجوع إلى حقيقته وهي إسلام الوجه لله والإخلاص له في كل عمل كما نطقت هذه الآيات التي ورد أنها نزلت عند مجيء وفد نصارى نجران . فقوله - تعالى - : ( فإن حاجوك ) يعني به أهل الكتاب أو عاما ، أي فإن جادلوك بعد أن جئتهم بالحق اليقين ، وأقمت عليه البينات والبراهين ، ودمغت الباطل بالآيات والدلائل ، فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن أي أقبلت عليه بعبادتي مخلصا له معرضا عما سواه أنا ومن اتبعني من المؤمنين . قال الأستاذ الإمام : كأنه يقول : إن من يقصد إلى الحجاج بعد تأييد الحق وتفنيد الباطل لا يقصد إلا إلى المجادلة والمشاغبة لمحض العناد والمشاكسة وذلك شأن المبطلين ، وأما طالب الحق فإنه يبخل بالوقت أن يضيع سدى وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أي لليهود والنصارى ومشركي العرب وكانوا ينسبون إلى الأم لجهلهم كما تقدم في تفسير سورة البقرة ، وخص هؤلاء بالذكر - والبعثة عامة - لأنهم هم الذين خاطبهم الرسول بالدعوة بلا واسطة أأسلمتم كما أسلمت لما وضحت لكم الحجة أم لا ؟ قال البيضاوي : ونظيره قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 : 91 ] وفيه تعبير لهم بالبلادة أو المعاندة اهـ . قال الأستاذ الإمام : الاستفهام للتقرير ، والمراد بالإسلام روح الدين الذي نزل به الكتاب ومقصده ، يعني أنه ليس لهم إلا الرسوم منه فإن أسلموا هذا الإسلام فقد اهتدوا قال الأستاذ الإمام : لأن هذا هو روح الدين ، فمن أصابه فهو على هداية من هذا الوجه ، فإن غشيه مع ذلك شيء من الباطل الصوري فهو لا يلبث أن يزول متى ظهر له الدليل على بطلانه ; ولذلك كان إسلامهم هذا لا بد أن يستتبع اتباعك فيما جئت به ; لأن من كان كذلك فهو نير القلب متوجه دائما إلى طلب الحق ، فهو أقرب الناس إلى [ ص: 215 ] قبوله متى جاءه وظهر له وإن تولوا معرضين عن الاعتراف بما سألت عنه لعلمهم أنهم ليسوا على شيء منه ، فإنما عليك البلاغ لحقيقة الإسلام ، وما أمرت به من الأحكام والله بصير بالعباد فهو أعلم بمن طمس قلبه فارتكس في شقائه ووقع اليأس من اهتدائه ، ومن يرجى له بتوفيق الله من بعد ما لا يرجى له اليوم ، أقول : ومثل هذه الآية نص قاطع في حصر وظيفة الرسول بالبلاغ عن الله وأنه ليس مسيطرا على الناس ولا جبارا ولا مكرها لهم على الإسلام ، وقد صرحت آيات أخرى بمفهوم الحصر في التبليغ يعرف مواقعها حفاظ القرآن والمكثرون من تلاوته .