( ) أقول : الخدع : أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه له لتنزله عما هو بصدده ، من قولهم : خدع الضب إذا توارى في جحره ، وضب خادع ، إذا أوهم الصائد إقباله عليه ، ثم خرج من باب آخر ، وأصله : الإخفاء . يخادعون الله والذين آمنوا
هذا ما حرره البيضاوي ، وقد جعله الراغب أعم ، فلم يعتبر فيما يخفيه الخادع أن يكون مكروها ، وهذا المعنى لا يمتنع إسناده إلى الله تعالى وإلى المؤمنين ، وهو ما تدل عليه صيغة المشاركة ( يخادعون ) وقالوا : إنه محال على الله وغير لائق بالمؤمنين بل يستقبح ؛ لأنه عمل المنافقين ، وقد جاء في سورة النساء ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) ( 4 : 142 ) ولما كان إخفاء شيء عن الله تعالى محالا فسروا مخادعتهم لله هنا وهناك بأنه خداع في الصورة لا في الحقيقة ، وذلك أنه شرع أن يعاملوا معاملة المؤمنين ولكنهم لا يجزون جزاءهم في الآخرة ، بل يكونون في الدرك الأسفل من النار ، فمعاملتهم الظاهرة غير جزائهم المغيب عنهم في الآخرة ، كما أن عملهم الظاهر غير كفرهم الخفي في أنفسهم ، فالجزاء من جنس العمل ، ولكن عملهم خداع ، ومقابلة حق صورته صورة الخداع ، ولكنه لا غش فيه ؛ لأن النصوص صريحة في كفر المنافقين .
والتحقيق : أن فعل المشاركة هنا خاص بالفاعل المسند إليه فعله وهم المنافقون ، وصيغة " فاعل " لا تطرد فيها المشاركة بالفعل كعاقبت اللص ، وقد تكون مقدرة أو باعتبار الشأن أو القصد ، ومن التكلف قول بعضهم : إنه عبر عن مخادعتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - بمخادعة الله تعالى .
وقال شيخنا : العمل الظاهر الذي لا يصدقه الباطن إذا قصد به إرضاء آخر يسمى في اللغة : مداجاة ، ومداراة ، ومخادعة ، فإن كان يقصد به المخادعة فظاهر ، وإلا فيكفي لصحة الإطلاق أن العمل عمل المخادع لا عمل الطائع الخاضع ، وهذا مراد القرآن من مخادعة هؤلاء الذين هم من أهل الكتاب المؤمنين بالله إيمانا ناقصا ، لم يقدروا الله فيه حق قدره ، ويستحيل أن يقصد المؤمن بالله تعالى مخادعته ، ولكنهم لجهلهم بالله ظنوا به ما يسوغ وصفهم بما ذكر عنهم .
قال تعالى : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) أقول : وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ( وما يخادعون إلا أنفسهم ) وهو دليل على ما قلنا آنفا في صيغة " فاعل " والمشاركة هنا للإشارة إلى أنهم هم الخادعون المخدوعون ، وقراءة الجمهور ( يخدعون ) نص في أن مخادعتهم [ ص: 127 ] لله والمؤمنين لا تأثير لها فيهما ، فهي بالنسبة إليهما صورية ، وفي الحقيقة : أن القوم يخدعون أنفسهم ؛ لأن ضرر عملهم خاص بهم ، وعاقبته وبال عليهم وحدهم .
وقال الأستاذ في الدرس فيها ما مثاله :
إذا رجع الإنسان إلى نفسه ، وأصغى لمناجاة سره يجد عندما يهم بعمل شيء أن في قلبه طريقين ، وفي نفسه خصمين مختصمين ، أحدهما : يأمره بالعمل وسلوك الطريق الأعوج ، وآخر : ينهاه عن العوج ويأمره بالاستقامة على المنهج ، ولا يترجح عنده باعث الشر ، ولا يجيب داعي السوء ، إلا إذا خدع نفسه بعد المشاورة والمذاكرة المطلوبة فيها ، وصرفها عن الحق وزين لها الباطل ، وهذه الشئون النفسية في غاية الخفاء ، تكون المنازعة ثم المخادعة ثم الترجيح ويمر ذلك كله كلمح البصر ، وربما لا يلتفت إليه الإنسان بفكره ، ولذلك قال : ( وما يشعرون ) فإن الشعور هو إدراك ما خفي .
أقول : قال الراغب بعد ذكر الشعر - بفتح الشين وسكون العين وفتحها - من مفرداته وشعرت أصبت الشعر ، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما هو في الدقة كإصابة الشعر ، ومنه يسمى الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته ، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم : ليت شعري . وصار في التعارف اسما للموزون المقفى من الكلام ا هـ .
أقول : ويناسب هذا الشعار - بالكسر - للكساء الباطن الذي يمس شعر الإنسان ، والمعروف في كتب اللغة أن شعر به - كنصر وكرم - يشعر شعرا - بالكسر والفتح - وشعورا معناه علم به وفطن له وأدركه ، والفطنة تتعلق بالأمور الدقيقة .
وأطلق بعض المفسرين : أن الشعور إدراك المشاعر أي الحواس الخمس ، والتحقيق : أنه إدراك ما دق من حسي وعقلي ، فلا تقول : شعرت بحلاوة العسل ، وبصوت الصاعقة ، وبألم كية النار ، وإنما تقول : أشعر بحرارة ما في بدني ، وبملوحة أو مرارة في هذا الماء إذا كانت قليلة ، وبهينمة وراء الجدار ، وما ورد في القرآن من هذا الحرف يدل على هذا المعنى ، أي إدراك ما فيه دقة وخفاء .
فمعنى : أنهم يجرون في كذبهم وتلبيسهم وريائهم على ما ألفوا وتعودوا ، فلا يحاسبون أنفسهم عليه ولا يراقبون الله فيه ، وما كلهم يؤمنون بوجود الله وإحاطة علمه ، ومن يؤمن بوجوده لم يترب على خشيته ومراقبته ، ولا يفكر فيما يرضيه وفيما يغضبه ، فهو يعمل عمل المخادع له وما يشعر بذلك ، وأما مخادعتهم للمؤمنين فظاهرة ، لأنهم اتخذوهم أعداء وهم عاجزون عن إظهار عداواتهم ، فأعمالهم التي يقصدون بها إرضاء المؤمنين كلها خداع ورياء . نفي الشعور عن المنافقين في مخادعتهم الله تعالى
[ ص: 128 ] وقد فصل شيخنا سر مخادعتهم وفلسفتها ببيان علمي جلي ، فقال ما معناه : هؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم قام لهم من أنفسهم ما يسهل لهم أمره من أمل في الغفران ، أو تأويل إلى غير المراد ، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب ، وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء ، المغشاة بصور من العقائد الملونة مما قد يتجلى للأعين فيما يسمونه إيمانا وما هم في الحقيقة بمؤمنين ، وإنما هم خادعون مخدوعون ، ولكنهم لما عمي عليهم من أمر أنفسهم لا يشعرون ؛ لأن ذلك يمر في أنفسهم وهم عنه غافلون .
وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عندما تسأل عنه ، وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات ، بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الإرادة ، باعثة لها على العمل ، فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها ( على النحو الذي ذكرناه فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال ، وهي ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات كالكرم والشجاعة ونحوهما فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها ) وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال ، وربما يغفل الإنسان عنه ولا يلاحظه عندما يعمل ، وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره وبين وجوده وتحققه في نفسه .
ومن العلوم ما يلاحظ الإنسان أنه عنده ، فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها ؛ لأنه لم يشربه القلب ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها ( وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول ، كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الإسلامي مثلا ، وكعلم مزايا الفضيلة ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق ، والنظار في كتب الأواخر والأوائل ، لتعزيز مادة العلم ، وتوسيع مجال القول ، وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك ، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل ، يبقى في خزانة الخيال ، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال ، لا إلى تحسين باطن الحال ، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه وتسميته علما ؛ لأنه يدخل في تعريفه العام : " صورة من الشيء حاضرة عند النفس " وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم ( الحقيقي ) فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه ، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر .
فهؤلاء - الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى - عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم ، وإن كان باطلا في نفسه ، وهو تصديقهم بما في شهواتهم من المصلحة لذواتهم ، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه ، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية ، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به ، وجعله رسما مخزونا في الخيال لا أثر له في الأفعال ، يدعونه بألسنتهم ، [ ص: 129 ] وتكذبهم في دعواهم أعمالهم وأحوالهم ، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول : ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) ( 2 : 3 ) فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفى عليه بذكر العمل الذي يشهد له ، ومن هنا يعلم ما الإيمان الذي يعتد به القرآن ، وهو يظهر لمن يقرأ ليحاسب به نفسه ، ويزن إيمانه وأعماله بما حكم به على إيمان من قبله وأعمالهم ، لا لمن يقرؤه على أنه قصة تاريخية مات من يحكي عنهم ، واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها .
فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت ، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان ( فكل مؤمن بالله واليوم الآخر ومع ذلك يصدر في عمله عن شهواته ، ولا يمنعه إيمانه عن ركوب خطيئاته ، فاعتقاده إنما هو خيال ، لا يعلو عن لفظ في مقال ، ودعوى عند جدال ، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه مخادع لربه ، يظن أن علام الغيوب لا ينظر إلى ما في القلوب ) .