الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم الذين قال لهم الناس : هم الذين استجابوا لله وللرسول فخرجوا إلى حمراء الأسد للقاء المشركين إذ عاد بهم أبو سفيان لاستئصالهم وكانوا سبعين رجلا كما تقدم ، ولكن روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة أن الآية نزلت في بدر الصغرى ، وذلك أن غزوة أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد : يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر القابل إن شئت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ذلك بيننا وبينك إن شاء الله ( كما تقدم ) فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل " مجنة " من ناحية " مر الظهران " وقيل بلغ " عسفان " فألقى الله - تعالى - الرعب في قلبه فبدا له الجوع ، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان : إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا [ ص: 196 ] إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن أرجع وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يدي . فأتى سهيل بن عمرو نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم : ما هذا بالرأي ، أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد ، فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم ! فوالله لا يفلت منكم أحد . فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون : " حسبنا الله ونعم الوكيل " حتى وافى بدرا فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان فلم يلقوا أحدا لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة ( وكان معه - كما قال ابن القيم - ألفا رجل ) فسماه أهل مكة جيش السويق ، وقالوا لهم : إنما خرجتم لتشربوا السويق . قال بعضهم : ووافى المسلمون سوق بدر وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين . وقال في ذلك أو عبد الله بن رواحة : كعب بن مالك
وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا
لأبت ذميما وافتقدت المواليا تركنا به أوصال عتبة وابنه
وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم
وأمركم الشيء الذي كان غاويا وإني وإن عنفتموني لقائل
فدى لرسول الله أهلي وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره
شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
فعلى هذه الرواية يكون المراد بالناس الذين قالوا للمؤمنين إن الناس قد جمعوا لكم : نعيم بن مسعود ومن وافقه فأذاع قوله ، وعن أنهم أربعة ، وروي أن ركبا من الشافعي عبد القيس مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا . وعزاه الرازي إلى ابن عباس ومحمد بن إسحاق ، وذكر قولا ثالثا عن أن الناس الذين قالوا هم المنافقون ، وأما الناس الذين جمعوا الجموع لقتال المسلمين فهم السدي أبو سفيان وأعوانه قولا واحدا . قال الأستاذ الإمام : يجوز أن يكون نعيم بن مسعود قال ذلك وأن يكون قاله ركب عبد القيس وتحدث به المنافقون ; فإن الأمر الكبير من شأنه أن يتحدث به الناس ويذهبون فيه مع أهوائهم . وقال أيضا : إن السبعين الذين خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر الصغرى أو ( بدر الموعد ) هم الذين خرجوا معه إلى حمراء الأسد ، فتصدق الآية على القصتين [ ص: 197 ] وتكون الآيات متأخرة النزول عما قبلها . وذكر ابن القيم في زاد المعاد والحلبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى بدر الموعد في ألف وخمسمائة ، ويجمع بينه وبين القول الأول بأن يكون خرج أولا بالسبعين ثم تبعه الباقون .
فزادهم إيمانا أي فزادهم قول الناس لهم إيمانا بالله وثقة به من حيث خشوه ولم يخشوا الناس الذين خوفوا منهم بأنهم جمعوا لهم الجموع واعتمدوا على نصره ومعونته وإن قل عددهم وضعف جلدهم ، فإنه هو العزيز القوي وذلك من شأن المؤمنين كما جاء في الآية الثانية من الآيتين التاليتين ، وكان من قوة إيمانهم وزيادته أن أقدموا - وهم عدد قليل قد أثخنوا بالجراح - على محاربة الجيش الكبير ، فالزيادة كانت في الإذعان النفسي ، والشعور القلبي ، وتبعها الزيادة في العمل ، بعد ذلك القول الدال على ما انطوت عليه النفس من اليقين بوعد الله ووعيده ، والشعور بعزته وسلطانه ، ولولا ذلك لم يكن لهم حول ولا قوة على تلك الاستجابة والإقدام على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان ، فمن يقول إن الإيمان النفسي لا يزيد ولا ينقص فقد نظر إلى الاصطلاحات اللفظية لا إلى نفسه في إدراكها وشعورها وقوتها في الإذعان وضعفها .
قالوا : إن التصديق لا يعتد به ويكون إيمانا صحيحا إلا إذا وصل إلى درجة اليقين ، فإذا نزل عن مرتبة اليقين كان ظنا أو شكا . وليس الظن إيمانا يعتد به ، والشك كفر صريح ونقول : إن الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ولا يعد إيمانا صحيحا هو ما لوحظ فيه جواز وقوع الطرف المخالف ، أي ما لوحظ فيه طرفان متقابلان . أحدهما : أن هذا لأمر ثابت وثانيهما : أنه يحتمل احتمالا ضعيفا ألا يكون ثابتا ، فإن جزم الذهن بأنه ثابت فلم يتصور الطرف المخالف - وهو عدم الثبوت - كان جزمه هذا إيمانا وإن لم يكن ناشئا عن برهان مؤلف من المقدمات اليقينية في عرف علماء المنطق على طريقتهم أو غير طريقتهم ، ولا ملاحظا فيه استحالة الطرف المخالف . وأكثر المؤمنين بالله ورسله والمؤمنين بالجبت والطاغوت في هذه المرتبة من الإيمان ويصح أن يطلق على أهلها لفظ " الموقنين " .
ولو كان الإيمان لا يصح إلا ببرهان منطقي على إثبات قضاياه واستحالة ضدها لما تصور أن يرتد أحد عن الإسلام بعد دخوله فيه ، لأن اليقين بهذا المعنى لا يمكن الرجوع عنه وإن أمكن مكابرته ومجاحدته باللسان ; ولذلك قال الأستاذ الإمام : " الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في العلم كلاهما قليل في الناس " يعني بذلك اليقين المنطقي الذي تنتهي مقدماته إلى البديهيات . ولكن الردة ثابتة نقلا ووقوعا . قال - تعالى - : من كفر بالله من بعد إيمانه [ 16 : 106 ] وقال - تعالى - : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 : 137 ]
[ ص: 198 ] هذا وإن يعلو بعضها بعضا وحصرها بعضهم في ثلاث : علم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين . فالارتقاء من درجة إلى أخرى زيادة في نفس اليقين . ويروى عن أمير المؤمنين لليقين مراتب ودرجات علي - رضي الله عنه - أنه قال : " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا " وهذا القول مبني على أن اليقين يقبل الزيادة في نفسه ، ومن أيقن بأن فلانا طبيب ماهر لأنه رآه نجح في معالجة بعض المرضى يضعف يقينه إذا رآه خاب في معالجة آخرين ، ويزداد إذا رآه ينجح آونة بعد أخرى - ولا سيما - في معالجة الأمراض الباطنية التي يعسر تشخيصها .
ثم إن فائدة الإيمان إنما تكون بإذعان النفس الذي يحرك فيها الخوف والرجاء وغيرهما من وجدانات الدين التي يترتب عليها ترك المنكر المنهي عنه وفعل المعروف المأمور به ، ولولا ذلك لم يكن للدين فائدة في إصلاح حال البشر . وهل يقول عاقل إن الإذعان والخوف والرجاء من الأمور التي لا تقبل الزيادة والنقصان ؟ أما إنه لو كان إذعان جميع المؤمنين في درجة واحدة لتساووا في الأعمال ولكنهم متفاوتون فيها تفاوتا عظيما كما هو ثابت بالمشاهدة ، فثبت أنهم متفاوتون في منشئها من النفس وهو الإذعان الذي يقوى ويضعف بالتبع للإيمان ، وهذا عين قبول الزيادة والنقصان .
ومن هنا نفهم معنى ، فإن كل اعتقاد له أثر في النفس يتبعه عمل من الأعمال ، فهي سلسلة مؤلفة من ثلاث حلقات يحرك بعضها بعضا ، والإمام إدخال السلف الصالح الأعمال في مفهوم الإيمان يعبر عنها بالعلم والحال والعمل ، فيقول : إن العلم بأن كذا يرضي الله - تعالى - أو كذا يسخطه مثلا يحدث في النفس حالا يترتب عليها فعل ما يرضيه ويقتضي مثوبته ، وترك ما يسخطه ويقتضي عقوبته . ويقول : إن ترتب بعضها على بعض واجب . وعبارته : إن العلم يوجب الحال والحال يوجب العمل . فارجع إليه في كتاب التوبة وغيره من كتب المجلد الرابع من الإحياء . الغزالي
وأما زيادة الإيمان بزيادة متعلقاته وهي المسائل التي يؤمن بها المؤمن التي يعبر عنها بشعب الإيمان فهي ظاهرة لا تحتاج في بيانها إلى شرح طويل ; فإن هذه المسائل لا يمكن أن تتلقى إلا بالتدريج فكلما تلقى المؤمن مسألة منها ازداد إيمانا . وليس هذا خاصا بالكافر الذي يدخل في الإسلام ، فإن الناشئ بين المؤمنين مثله في ذلك . وليست المسائل التي تزيد الإنسان معرفتها إيمانا محصورة في النصوص التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ; فإن القرآن هدانا إلى التفكير والنظر في ملكوت السماوات والأرض لنزداد إيمانا ونعتبر ونستفيد ، وذلك يفتح لنا أبوابا من العلم بالله وسننه لا نهاية لها . فكل ما نهتدي إليه في بحثنا ونظرنا من أسرار الكائنات وسنن الله - تعالى - في المخلوقات فإنا نزداد به علما بالله وإيمانا [ ص: 199 ] بقدرته وحكمته البالغة ، وقد قال - سبحانه - لأقوى الناس إيمانا وأوسعهم علما به وبسنته : وقل رب زدني علما [ 20 : 114 ] وكذلك كلما تلقى شيئا منها ، وقد يتدبرها المؤمن بعد العلم بها بأيام أو سنين ، فيفهم منها ما لم يكن يفهم فيزداد إيمانا . قال - تعالى - : آيات القرآن تزيد من يتلقاها إيمانا وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 : 124 ، 125 ] وقال علي ( رضي الله عنه ) حين سئل هل خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء ؟ : لا إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن .
وليس هذا النوع من زيادة الإيمان هو المراد من الآية التي نحن بصدر تفسيرها ، وإنما المراد به النوع الأول وهو الزيادة في أصل اليقين والإذعان المؤثر في الوجدان ، فهي من قبيل قوله - تعالى - : ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما [ 33 : 22 ] وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل أي وقالوا معبرين عن إيمانهم حسبنا الله أي هو كافينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا لنا ، وحسبنا بمعنى محسبنا ، فهو من أحسبه إذا كفاه كما قالوا : ونعم الوكيل الذي توكل إليه الأمور هو ، فإنه لا يعجزه أن ينصرنا عليهم على قلتنا وكثرتهم ، أو يلقي الرعب في قلوبهم ، ويكفينا شر بغيهم وكيدهم - وقد كان الأمر كذلك - فإن الله - تعالى - ألقى الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه على كثرتهم فولوا مدبرين ، وأعز الله بذلك رسوله والمؤمنين .