ثم قال تعالى : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) إلخ أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، وتجتثوا دليله من أصله ، وما أنتم بفاعلين ؛ لأن هذا ليس في طاقة المخلوقين ، فاتقوا النار التي أعدت لأمثالكم من الكافرين ، الذين يجحدون الحق بعد البرهان المبين ، وقوله تعالى : ( ولن تفعلوا ) جملة معترضة بين الشرط وجوابه وهي مقصودة هنا في ذاتها لما فيها من تقوية الدليل وتقرير عجزهم بما يثير حميتهم ويغريهم بتكلف المعارضة ، ولا يمكن أن يصدر مثل هذا النفي الاستقبالي المؤكد أو المؤبد من عاقل كالنبي - عليه الصلاة والسلام - في أمر ممكن عقلا لولا أن أنطقه الله الذي خصه بالوحي ، وهو الذي يعلم غيب السماوات والأرض ، بأنه غير ممكن لأحد .
وعبر عن نفي وقوع الفعل منهم بــ " إن " التي يعبر بها عما يشك في شرطه ، أو يجزم المتكلم بعدم وقوعه ، ومقتضى القاعدة أن يكون الشرط هنا بــ " إذا " لأن المحقق أنهم لن يفعلوا كما صرحت به الآية ، مع القطع بأن الله تعالى منزه عن الشك ، ولكن القواعد التي تذكر في علم البلاغة قد ينظر فيها إلى حال المخاطب لا حال المتكلم ، والمعول عليه هو ما يقصد المتكلم أن يبلغه من نفس المخاطب ويودعه في ذهنه ، فهاهنا يخاطب الله المرتابين ، والذين هم في جحودهم وعنادهم كالواثقين الموقنين ، خطابا يؤذن أوله بأن عدم الإتيان بما تحداهم به مشكوك فيه ، ولازمه أن المعارضة جائزة منهم ، وداخلة في حدود إمكانهم ، خاطبهم بهذا مراعاة لظاهر حالهم التي تومئ إلى القدرة على المعارضة ، وتشير إلى إمكان الإتيان بالسورة ، ثم كر على هذا الإيذان [ ص: 163 ] بل الإيهام بالنقض بلا تلبث ولا تريث ، وأبطل مراعاة الظاهر بل حولها إلى تهكم بالنفي المؤكد الذي ذهب بذلك الذماء ، واستبدل اليأس بالرجاء ، كأنه يقول : إن إعراضكم عن الإيمان ، بعد سماع هذا القرآن ، الذي أفاض العلوم على أمي لم يترب في معاهد العلم ، وأظهر معجزات البلاغة على من لم يكن يعرف منه التبريز بها في نثر ولا نظم ، يدل على أنكم تدعون استطاعة الإتيان بسورة من مثله وما أنتم بمستطيعين ، ولو استعنتم عليه بجميع العالمين ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .
كان يتحداهم بمثل هذه الآيات الصادعة التي تثير النخوة ، وتهيج الغيرة مع علو كعبهم في البلاغة ورسوخ عرقهم في أساليبها وفنونها ، في عصر ارتقت فيه دولة الكلام ارتقاء لم تعرف مثله الأيام ، حتى كانوا يتبارون فيه ويتنافسون ، ويباهون ويفاخرون ، ويعقدون لذلك المجامع ويقيمون الأسواق ، ثم يطيرون بأخبارها في الآفاق ، ومع هذا لم يتصد أحد منهم للمعارضة ، ولم ينهض بليغ من مصاقعهم إلى المناهضة ( أقول ) بل تواتر عنهم ما كان ( ( من الإعراض عن المعارضة بأسلات ألسنتهم ، والفزع إلى المقارعة بأسنة أسلهم ) ) وسفك دمائهم بأسيافهم ، وتخريب بيوتهم بأيديهم ، أفلم يكن الأجدر بمداره قريش وفحولها ، غرر بني معد وحجولها أن يجتمعوا على تأليف سورة ببلاغتهم التي كانوا يتبارون فيها بسوق عكاظ وغيرها من مجامع مفاخراتهم ، ويؤثروا هذا على سوق الخميس بعد الخميس من صناديدهم إلى يثرب لقتال محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن به " رضي الله عنه " في بدر وأحد ووراء الخندق لو كان ذلك مستطاعا لهم ؟ ومثل هذا يقال في اليهود الذين كانوا بجواره في المدينة فأمنهم على دينهم وأموالهم وأعراضهم ، فأبوا إلا إعانة مشركي قومه عليه حتى اضطروه إلى قتالهم ، وإخراج بقية السيف من ديارهم ، فلا شك أن الله تعالى قد رفع هذا الكلام إلى درجة لا يرتقي البشر إليها ، وهو - تعالى جده - العالم بمبلغ استطاعتهم ، والمالك لأعنة قدرتهم .
قال المتكلمون في : إننا نجده لم يلتزم شيئا مما كانوا يلتزمون بسجعهم وإرسالهم ورجزهم وأشعارهم ، بل جاء على النمط الفطري ، والأسلوب العادي الذي يتسنى لكل إنسان أن يحذو مثاله ، ولكنهم عجزوا فلم يأتوا ولن يأتي غيرهم بسورة من مثله ، ثم نلاحظ أيضا : أن القرآن بهذا الأسلوب قد تحدى به كل من بلغه من العرب ، على تفرق ديارهم ، وتنائي أقطارهم ، وأرسل الرسول إلى الأطراف يدعو الناس إلى الإيمان به ، فعمت الدعوة [ ص: 164 ] وبلغت مبلغها ولم ينبر أحد للمعارضة كما قلنا ، ألا يدل هذا على نهاية العجز وعمومه ، وإحساس كل بليغ بالضعيف في نفسه عن الانبراء لمباراته ، والتسامي لمحاكاته ، وعلى أن الله تعالى جعله فوق القدر ، خارقا لما يعتاد من كسب البشر ؟ بلى ، وإن لهذا الإعجاز وجهين : أحدهما : كونه معجزا بذاته ؛ لأنه في مرتبة لا يمكن لبشر أن يرتقي إليها ، وثانيهما : أنه جاء على لسان أمي لبث أربعين سنة لم يوصف بالبلاغة ، ولم يؤثر عنه شيء من العلم ، وقد ذكروا بلاغة القرآن ، منها قوله هنا : ( وجوها أخرى للإعجاز ينطوي عليها القرآن ولن تفعلوا ) بناء على أن المخبر هو الله تعالى ، عالم الغيب وما يكون في المستقبل ، ومن فائدة هذا القول في عهد نزوله وقبل ظهور تأويله : أن قرعه لسمع من لا يؤمن بالغيب يقتضي أشد التحريض على المعارضة التي يظهر بها العجز ، ويقوم البرهان بالإعجاز المقتضي للإيمان ، لولا مكابرة المستكبرين لوجدانهم ، وجحود ألسنتهم لما استيقنته قلوبهم ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) ( 27 : 14 ) وأما من يؤمن بالغيب ويعتقد الخوارق فما عليه إلا أن ينتهي إلى عجزه ويبادر إلى الإيمان به وبرسالة من أنزل عليه ، للعلم القطعي بأنه لا يمكن لعاقل أن يجزم بذلك إلا إذا كان مطلعا على الغيب ، فهو خبر عن الله - عز وجل - .
قال تعالى مخاطبا للفريقين بعد تسجيل العجز عليهم : فاتقوا النار ) وهي موطن عذاب الآخرة ، نؤمن بها ، ولأنها من عالم الغيب الذي أخبر الله تعالى به ولا نبحث عن حقيقتها ، ولا نقول إنها شبيهة بنار الدنيا ، ولا إنها غير شبيهة بها ، وإنما نثبت لها جميع الأوصاف التي وصفها الله تعالى بها كقوله : ( ( التي وقودها الناس والحجارة ) المراد بالحجارة الأصنام كما في قوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) ولا يسبقن إلى الفهم أنها لا توجد إلا بوجود الناس والحجارة إذ يصح أن يكونوا وقودها بعد وجودها والوقود بالفتح ما توقد به النار وبالضم مصدر ، وقد سمع المصدر بالفتح أيضا .
وقال بعضهم في تفسير " وقودها " إن الناس بأعمالهم وعبادة بعضهم بعضا وانحرافهم عن صراط الحق المستقيم - والحجارة بعبادة الناس لها - سببان في إيجاد النار وإعدادها لهم ، فبذلك كانوا كالوقود الذي تضرم به النار ، وفي الكلام تقديم السبب وهو الناس والحجارة على المسبب ، وهو قوله تعالى : ( أعدت للكافرين ) وبهذا التفسير يظهر الحصر في جملة ( وقودها الناس والحجارة ) فإنها اسمية معرفة الطرفين ، وخص الحجارة بالذكر ؛ لأنها أظهر المعبودات عند العرب .
والمراد بالكافرين : الذين لا يجيبون دعوة الأنبياء - عليهم السلام - ، والذين ينحرفون عن أصولها بعد الأخذ بها لبدع يبتدعونها ، وتقاليد يحدثونها ، وتأويلات يلفقونها ، فهؤلاء هم الذين أعدت وهيئت النار لهم ، لأنهم الذين يستحقون الخلود فيها ، ومن وردها ورودا وانتهى إلى موطن آخر فذلك الموطن هو الذي أعد له ، وليس بعد الدنيا موطن إلا الجنة ، جعلنا الله من أهلها بالتوفيق للتقوى ، أو النار ، نعوذ بالله منها ومما يقرب إليها من قول وعمل .