قرأ عاصم والكسائي ويعقوب : " مالك " والباقون " ملك " وعليها أهل الحجاز والفرق بينهما أن المالك ذو الملك بكسر الميم ، والملك ذو الملك بضمها ، والقرآن يشهد للأولى بمثل قوله : ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ) ( 82 : 19 ) وللثانية بقوله : ( لمن الملك اليوم ) ( 40 : 16 ) قال بعضهم : إن قراءة ملك أبلغ ؛ لأن هذا اللفظ يفهم منه معنى السلطان والقوة والتدبير . قال آخرون : إن القراءة الأخرى أبلغ ؛ لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ، ولا تصرف له بشيء من شئونهم الخاصة ، والمالك سلطته أعم ، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون سلطانه .
وأقول الآن : الظاهر أن قراءة " ملك " أبلغ ؛ لأن معناها المتصرف في أمور العقلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء ، ولهذا يقال : ( ملك الناس ) ولا يقال ملك الأشياء . قاله الراغب . وقال في ( ملك يوم الدين ) تقديره الملك في يوم الدين ؛ لقوله : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) ا هـ . وإنما كان هذا أبلغ ؛ لأن السياق يدلنا على أن المراد بالآية تذكير المكلفين بما ينتظرهم من الجزاء على أعمالهم رجاء أن تستقيم أحوالهم ، ومعنى ( مالك يوم الدين ) قد يستفاد من قوله " ( رب العالمين " على أن مجموع القراءتين يدل على المعنيين فكلاهما ثابت ، ولكن القراءة في الصلاة بملك يوم الدين تثير من الخشوع ما لا تثيره القراءة الأخرى التي يفضلها بعضهم ؛ لأنها تزيد حرفا في النطق . وورد في الحديث أن للقارئ بكل [ ص: 46 ] حرف كذا حسنة ، ولكن فاتهم أن حسنة واحدة تكون أكبر تأثيرا في القلب خير من مائة حسنة يكن دونها في التأثير .
و ( الدين ) يطلق في اللغة على الحساب وعلى المكافأة ، وورد " " وقال الشاعر : كما تدين تدان
ولم يبق سوى العدوا ن دناهم كما دانوا
وعلى الجزاء وهو قريب من معنى المكافأة ، وعلى الطاعة ، وعلى الإخضاع ، وعلى السياسة ؛ يقال : دنته ، ودينته فلانا ( بالتشديد ) أي وليته سياسته ، وهو قريب من معنى الإخضاع ، وعلى الشريعة : ما يؤخذ العباد به من التكاليف . والمناسب هنا من هذه المعاني الجزاء والخضوع وإنما قال " يوم الدين " ولم يقل " الدين " لتعريفنا بأن للدين يوما ممتازا عن سائر الأيام ، وهو اليوم الذي يلقى فيه كل عامل عمله ويوفى جزاءه .
ولسائل أن يسأل : أليست كل الأيام أيام جزاء . وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في أداء الحقوق والقيام بالواجبات التي عليهم ؟ والجواب : بلى إن أيامنا التي نحن فيها قد يقع فيها الجزاء على أعمالنا ، ولكن ربما لا يظهر لأربابه إلا على بعضها دون جميعها . والجزاء على التفريط في العمل الواجب إنما يظهر في الدنيا ظهورا تاما بالنسبة إلى مجموع الأمة لا إلى كل فرد من الأفراد ، فما من أمة انحرفت عن صراط الله المستقيم ولم تراع سننه في خليقته إلا وأحل بها العدل الإلهي ما تستحق من الجزاء كالفقر والذل وفقد العزة والسلطة . وأما الأفراد فإننا نرى كثيرا من المسرفين الظالمين يقضون أعمارهم منغمسين في الشهوات واللذات ، نعم إن ضمائرهم توبخهم أحيانا وإنهم لا يسلمون من المنغصات ، [ ص: 47 ] وقد يصيبهم النقص في أموالهم ، وعافية أبدانهم ، وقوة عقولهم . ولكن هذا كله لا يقابل بعض أعمالهم القبيحة ، لا سيما الملوك والأمراء الذين تشقى بأعمالهم السيئة أمم وشعوب . كذلك نرى من المحسنين في أنفسهم وللناس من يبتلى بهضم حقوقه ، ولا ينال الجزاء الذي يستحقه على عمله ، فإن كان قد ينال رضاء نفسه وسلامة أخلاقه وصحة ملكاته ، فما ذلك كل ما يستحق ، وفي ذلك اليوم يوفى كل فرد من أفراد العالمين جزاءه كاملا لا يظلم شيئا منه ، كما قال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ( 99 : 7 - 8 )
، ولكن هل يشعر كل عباده بهذه المنة فينجذبوا إليه الانجذاب المطلوب ؟ أليس فينا من يسلك كل سبيل لا يبالي بمستقيم ومعوج ؟ بلى ، ولهذا أعقب سبحانه ذكر الرحمة بذكر الدين ، فعرفنا أنه يدين العباد ويجازيهم على أعمالهم فكان من رحمته بعباده أن رباهم بنوعي التربية كليهما : الترغيب والترهيب ، كما تشهد بذلك آيات القرآن الكثيرة ( علمنا الله أنه رحمن رحيم ليجذب قلوبنا إليه نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ) ( 15 : 49 - 50 ) .