أمرهم الله - تعالى - بالهبوط مرتين ، فالأولى : بيان لحالهم في أنفسهم بعد الهبوط من تلك الجنة أو الخروج من ذلك الطور وهو أن حالهم تقتضي العداوة والاستقرار في الأرض والتمتع بها ، وعدم الخلود فيها .
والثانية : بيان لحالهم من حيث الطاعة والمعصية وآثارهما ، وهي أن حالة الإنسان في هذا الطور لا تكون عصيانا مستمرا شاملا ، ولا تكون هدى واجتباء عاما - كما كان يفهم لو اقتصر على ذكر توبة الله على آدم وهدايته واجتبائه - وإنما الأمر موكول إلى اجتهاد الإنسان وسعيه ، ومن رحمة الله - تعالى - به أن يجعل في بعض أفراده الوحي ويعلمهم طرق الهداية ، فمن سلكها فاز وسعد ، ومن تنكبها خسر وشقي ، هذا هو السر في إعادة ذكر الهبوط لا أنه أعيد للتأكيد كما زعموا .
[ ص: 237 ] قال - تعالى - : ( قلنا اهبطوا منها جميعا ) أي فقد انتهى طور النعيم الخالص والراحة العامة وادخلوا في طور لكم فيه طريقان : هدى وضلال ، إيمان وكفران ، فلاح وخسران ( فإما يأتينكم مني هدى ) من رسول مرشد وكتاب مبين ( فمن تبع هداي ) الذي أشرعه ، وسلك صراطي المستقيم الذي أحدده ( فلا خوف عليهم ) من وسوسة الشيطان ، ولا مما يعقبها من الشقاء والخسران ( ولا هم يحزنون ) على فوت مطلوب أو فقد محبوب ؛ لأنهم يعلمون بهذه الهداية أن الصبر والتسليم مما يرضي الله - تعالى - ويوجب مثوبته ، ويفتح للإنسان باب الاعتبار بالحوادث ، ويقويه على مصارعة الكوارث ، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته وأفضل تعزية عما فقده .
( قال الأستاذ الإمام ما مثاله ) : الخوف عبارة عن تألم الإنسان من توقع مكروه يصيبه ، أو توقع حرمان من محبوب يتمتع به أو يطلبه ، والحزن ألم يلم بالإنسان إذا فقد ما يحب ، وقد أعطانا الله جل ثناؤه الطمأنينة التامة في مقابلة ما تحدثه كلمة ( اهبطوا ) من الخوف من سوء المنقلب ، وما تثيره من كوامن الرعب ، فالمهتدون بهداية الله - تعالى - لا يخافون مما هو آت ، ولا يحزنون على ما فات ؛ لأن اتباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات ، ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة ، ومن كانت هذه وجهته ، يسهل عليه كل ما يستقبله ، ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده ؛ لأنه موقن بأن الله يخلفه فيكون كالتعب في الكسب لا يلبث أن يزول بلذة الربح الذي يقع أو يتوقع .
وإذا قال قائل : إن الدين يقيد حرية الإنسان ويمنعه بعض اللذات التي يقدر على التمتع بها ، ويحزنه الحرمان منها ، فكيف يكون هو المأمن من الأحزان ، ويكون باتباعه الفوز وبتركه الخسران ؟ فجوابه : إن الدين لا يمنع من لذة إلا إذا كان في إصابتها ضرر على مصيبها ، أو على أحد إخوانه من أبناء جنسه الذين يفوته من منافع تعاونهم - إذا آذاهم - أكثر مما يناله بالتلذذ بإيذائهم ، ولو تمثلت لمستحل اللذة المحرمة مضارها التي تعقبها في نفسه وفي الناس ، وتصور مالها من التأثير في فساد العمران لو كانت عامة ، وكان صحيح العقل معتدل الفطرة لرجع عنها متمثلا بقول الشاعر :
لا خير في لذة من بعدها كدر
فكيف إذا كان مع ذلك يؤمن باليوم الآخر ، ويعلم أن هذه المحرمات تدنس الروح فلا تكون أهلا لدار الكرامة في يوم القيامة !
[ ص: 238 ] ( قال الأستاذ : وليست سعادة الإنسان في حرية البهائم بل في الحرية التي تكون في دائرة الشرع ومحيطه ، فمن اتبع هداية الله فلا شك أنه يتمتع تمتعا حسنا ، ويتلقى بالصبر كل ما أصابه ، وبالطمأنينة ما يتوقع أن يصيبه فلا يخاف ولا يحزن .
يريد : أن رجاء الإنسان فيما وراء الطبيعة هو الذي يقيه من تحكم عوادي الطبيعة فيه ، وبدون ذلك الرجاء تتحكم فيه أشد مما تتحكم في البهائم التي هي أقوى منه طبيعة ( وخلق الإنسان ضعيفا ) ( 4 : 28 ) فالتماس السعادة بحرية البهائم هو الشقاء اللازم ، وقد صرح بلفظ التمتع الحسن أخذا من قوله - تعالى - : ( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ) ( 11 : 3 ) الآية ، فالآيات الدالة على أن سعادة الدنيا معلولة للاهتداء بالدين كثيرة جدا ، وقد حجبها عن كثير من المسلمين قولهم في الكافرين : لهم الدنيا ولنا الآخرة ، يغالطون أنفسهم بحجة القرآن عليهم ، وآيات سورة طه في قصة آدم أوضح في المراد من آيات البقرة ، وهي قوله - عز وجل - : ( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) ( 20 : 123 - 124 ) الآيات .
قال - تعالى - : ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ) ( أقول ) : الآيات جمع آية وهي كما قال الجمهور : العلامة الظاهرة ، قال الراغب : وحقيقته أن كل شيء ظاهر ملازم لشيء باطن يعرف به ، ويدرك بإدراكه حسيا كان كأعلام الطرق ومنار السفن ، أو عقليا كالدلائل المؤلفة من مقدمات ونتيجة ا هـ بالمعنى ( قال ) : واشتقاق الآية إما من أي فإنها هي التي تبين أيا من أي ، والصحيح أنها مشتقة من التأيي الذي هو التثبت والإقامة على الشيء ا هـ . أقول : بل أصله قصد آية الشيء أي شخصه ، ومنه قول الشاعر :
تتأيا الطير غدوته ثقة بالشبع من جزره
أي تتحرى الطير وتقصد خروجه صباحا إلى القتال أو الصيد لثقتها بما سبق من التجارب بأن تستشبع مما يترك لها من الفرائس .
وأطلقت الآية على كل قسم من الأقسام التي تتألف منها سور القرآن العظيم وتفصله من غيره فاصلة يقف القارئ عندها في تلاوته ، ويميزها الكاتب له ببياض أو بنقطة دائرة أو ذات نقش أو بالعدد ، والعمدة في معرفة الآيات بفواصلها التوقيف المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان أكثرها يدرك من النظم ، والآيات تطلق في القرآن على هذه ، وهي الآيات المنزلة من عند الله - تعالى - ؛ لأنها دلائل لفظية على العقائد والحكم والأحكام والآداب [ ص: 239 ] التي شرعها لعباده ، كما تدل في جملتها على كونها من عند الله - تعالى - لاشتمالها على ما تقدم بيانه من وجوه إعجاز البشر عن مثلها ، وتطلق أيضا على كل ما يدل على وجود الخالق - تعالى - وقدرته ووحدانيته وصفات كماله من هذه المخلوقات ، ومن نتائج العقول وبراهينها ، أو على غير ذلك من السنن والعبر .
وهذه الآية مقابل قوله قبله : ( فمن اتبع هداي ) . . . إلخ ، أي وأما الذين لم يتبعوا هداي ، وهم الذين كفروا بنا وكذبوا بآياتنا المبينة لسبيل ذلك الهدى - كما قال قبل قصة آدم : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) ( 2 : 28 ) - أو وأما الذين كفروا بآياتنا اعتقادا ، وكذبوا بها لسانا ، فجزاؤهم ما يأتي ، والتكذيب كفر سواء أكان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول أم مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد الذي قال الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في أهله : ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) ( 6 : 33 ) كما أن الكفر القلبي قد يوجد مع تصديق اللسان كما هي حال المنافقين ، والمعنى كما قرره شيخنا بالاختصار : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا التي نجعلها دلائل الهداية وحجج الإرشاد بأن جحدوا بها وأنكروها ، ولم يذعنوا لصدقها اتباعا لخطوات الشيطان ، وعملا بوسوسته وذهابا مع إغوائه - ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) تقدم تفسير الخلود في آخر ( الآية 25 ) وأقول : إن هذه الجملة على الحصر أو الاختصاص الإضافي ، أي أولئك الكافرون المكذبون البعداء هم - دون متبعي هداي - أصحاب النار وأهلها هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ، أي هم في خوف قاهر ، وحزن مساور ، وقد فسر ( الجلال ) الآيات بالكتب المنزلة ، وهو يصح في القرآن ، فإنه آية على نفسه ، وعلى صدق من جاء به ، وسائر الكتب تحتاج إلى آية تدل على أنها من عند الله - تعالى .
( قال الأستاذ ) : بعد تفسير الكفر بالجحود ، والتكذيب بالإنكار : وكل منهما يأتي في فرق من الناس ، فمنهم من لا تقوى ولا إيمان له ؛ وهم الذين لا يؤمنون بالغيب لأنه ليس عندهم أصل للنظر فيما جاءهم ، فهؤلاء منكرون وهم مكذبون ؛ لأن التكذيب يشمل عدم الاعتقاد بصدق الدعوى التي جاء بها الرسول واعتقاد كذبها ، والجحود قد يأتي من المعتقد ، قال - تعالى - : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) ( 27 : 14 ) .
فهذا هو الطور الأخير للإنسان بعد ما وكل إلى كسبه ، وجعل فلاحه وخسرانه بعمله ؛ فمن لطف الله به أن أيده بهداية الدين بعد هداية الحس والوجدان والعقل ، فبهذه الهدايات يرتقي بالتدريج ما شاء الله - تعالى .