ثم قال جل ثناؤه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=79nindex.php?page=treesubj&link=28973_31931_27133فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون )
قال المفسر (
الجلال ) : إنهم كانوا يكتبون الأحكام على خلاف ما هي عليه في الكتاب ، كآية الرجم ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 299 ] وقال الأستاذ الإمام : لو كان هذا هو المراد من هذه الآية لما بدئ الكلام بالفاء ، وإنما الآية وعيد على أن لبسوا على الناس بالكتابة ، وتأليف الكتب الدينية وإيهام العامة أن كل ما كتبوه فيها مأخوذ من كتاب الله كما يعتقد المقلدون من كل ملة بكتب الدين التي يؤلفها علماؤهم في الأصول والفروع ، حتى إن بعضهم يقول : إن اختلافها لا ينافي كونها من عند الله ، خلافا لقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ( 4 : 82 ) ، فهذه الكتب هي مثار الأماني والغرور ؛ ولذلك أنزل على أصحابها الهلاك بعد ما ذكر أصناف
اليهود من منافقين ومحرفين وأميين فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=79فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ) .
أقول : أي ويل وهلاك عظيم لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتب بأيديهم ويودعونها آراءهم ويحملون الناس على التعبد بها قائلين :إن ما فيها من عند الله ويمكن الاستغناء بها عن الكتاب الذي نفهم منه ما لا يفهم غيرنا ، يخطبون بتلك الكتب ميل العامة وودهم ، ويبتغون الجاه عندهم ويأكلون أموالهم بالدين ؛ ولذلك قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=79ليشتروا به ثمنا قليلا ) ، وكل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل ؛ لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها ، وأرفعها وأعلاها ؛ ولذلك كرر الوعيد فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=79فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) ، فالهلاك والويل محيط بهم من أقطارهم ، ونازل بهم من جانب الوسيلة ومن جانب المقصد .
قال الأستاذ الإمام : من شاء أن يرى نسخة مما كان عليه أولئك
اليهود ، فلينظر فيما بين يديه ، فإنه يراها واضحة جلية ، يرى كتبا ألفت في عقائد الدين وأحكامه حرفوا فيها مقاصده وحولوها إلى ما يغر الناس ويمنيهم ويفسد عليهم دينهم ، ويقولون : هي من عند الله وما هي من عند الله ، وإنما هي صادة عن النظر في كتاب الله والاهتداء به ، ولا يعمل هذا إلا أحد رجلين : رجل مارق من الدين يتعمد إفساده ويتوخى إضلال أهله ، فيلبس لباس الدين ويظهر بمظهر أهل الصلاح ، يخادع بذلك الناس ليقبلوا ما يكتب ويقول ، ورجل يتحرى التأويل ويستنبط الحيل ليسهل على الناس مخالفة الشريعة ابتغاء المال والجاه .
ثم ذكر الأستاذ وقائع ، طابق فيها بين ما كان عليه
اليهود من قبل ، وما عليه المسلمون الآن ، ذكر وقائع للقضاة والمأذونين ، وللعلماء والواعظين ، فسقوا فيها عن أمر ربهم ، فمنهم من يتأول ويغتر بأنه يقصد نفع أمته ، كما كان أحبار
اليهود يفتون بأكل الربا أضعافا مضاعفة ليستغني شعب إسرائيل ، ومنهم من يفعل ما يفعل عامدا عالما أنه مبطل ، ولكن تغره أماني الشفاعات والمكفرات .
ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=79nindex.php?page=treesubj&link=28973_31931_27133فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ )
قَالَ الْمُفَسِّرُ (
الْجَلَالُ ) : إِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْأَحْكَامَ عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ ، كَآيَةِ الرَّجْمِ وَوَصَفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
[ ص: 299 ] وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لَمَا بُدِئَ الْكَلَامُ بِالْفَاءِ ، وَإِنَّمَا الْآيَةُ وَعِيدٌ عَلَى أَنْ لَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ بِالْكِتَابَةِ ، وَتَأْلِيفِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ وَإِيهَامِ الْعَامَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا كَتَبُوهُ فِيهَا مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَمَا يَعْتَقِدُ الْمُقَلِّدُونَ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ بِكُتُبِ الدِّينِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا عُلَمَاؤُهُمْ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ : إِنَّ اخْتِلَافَهَا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، خِلَافًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) ( 4 : 82 ) ، فَهَذِهِ الْكُتُبُ هِيَ مَثَارُ الْأَمَانِيِّ وَالْغُرُورِ ؛ وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ عَلَى أَصْحَابِهَا الْهَلَاكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَصْنَافَ
الْيَهُودِ مِنْ مُنَافِقِينَ وَمُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=79فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) .
أَقُولُ : أَيْ وَيْلٌ وَهَلَاكٌ عَظِيمٌ لِأُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكُتُبَ بِأَيْدِيهِمْ وَيُودِعُونَهَا آرَاءَهُمْ وَيَحْمِلُونَ النَّاسَ عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا قَائِلِينَ :إِنَّ مَا فِيهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهَا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي نَفْهَمُ مِنْهُ مَا لَا يَفْهَمُ غَيْرُنَا ، يَخْطُبُونَ بِتِلْكَ الْكُتُبِ مَيْلَ الْعَامَّةِ وَوُدَّهُمْ ، وَيَبْتَغُونَ الْجَاهَ عِنْدَهُمْ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالدِّينِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=79لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ) ، وَكُلُّ مَا يُبَاعُ بِهِ الْحَقُّ وَيُتْرَكُ لِأَجْلِهِ فَهُوَ قَلِيلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ أَثْمَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَغْلَاهَا ، وَأَرْفَعُهَا وَأَعْلَاهَا ؛ وَلِذَلِكَ كَرَّرَ الْوَعِيدَ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=79فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) ، فَالْهَلَاكُ وَالْوَيْلُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ أَقْطَارِهِمْ ، وَنَازِلٌ بِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْوَسِيلَةِ وَمِنْ جَانِبِ الْمَقْصِدِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : مَنْ شَاءَ أَنْ يَرَى نُسْخَةً مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ
الْيَهُودُ ، فَلْيَنْظُرْ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَرَاهَا وَاضِحَةً جَلِيَّةً ، يَرَى كُتُبًا أُلِّفَتْ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ حَرَّفُوا فِيهَا مَقَاصِدَهُ وَحَوَّلُوهَا إِلَى مَا يَغُرُّ النَّاسَ وَيُمَنِّيهِمْ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ، وَيَقُولُونَ : هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا هِيَ صَادَّةٌ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ ، وَلَا يَعْمَلُ هَذَا إِلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ : رَجُلٌ مَارِقٌ مِنَ الدِّينِ يَتَعَمَّدُ إِفْسَادَهُ وَيَتَوَخَّى إِضْلَالَ أَهْلِهِ ، فَيَلْبَسُ لِبَاسَ الدِّينِ وَيَظْهَرُ بِمَظْهَرِ أَهْلِ الصَّلَاحِ ، يُخَادِعُ بِذَلِكَ النَّاسَ لِيَقْبَلُوا مَا يَكْتُبُ وَيَقُولُ ، وَرَجُلٌ يَتَحَرَّى التَّأْوِيلَ وَيَسْتَنْبِطُ الْحِيَلَ لِيُسَهِّلَ عَلَى النَّاسِ مُخَالَفَةَ الشَّرِيعَةِ ابْتِغَاءَ الْمَالِ وَالْجَاهِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ وَقَائِعَ ، طَابَقَ فِيهَا بَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ
الْيَهُودُ مِنْ قَبْلُ ، وَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ ، ذَكَرَ وَقَائِعَ لِلْقُضَاةِ وَالْمَأْذُونِينَ ، وَلِلْعُلَمَاءِ وَالْوَاعِظِينَ ، فَسَقُوا فِيهَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ وَيَغْتَرُّ بِأَنَّهُ يَقْصِدُ نَفْعَ أُمَّتِهِ ، كَمَا كَانَ أَحْبَارُ
الْيَهُودُ يُفْتُونَ بِأَكْلِ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لِيَسْتَغْنِيَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّهُ مُبْطَلٌ ، وَلَكِنْ تَغُرُّهُ أَمَانِيُّ الشَّفَاعَاتِ وَالْمُكَفِّرَاتِ .