(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97nindex.php?page=treesubj&link=28973_29755قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=99ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=100أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون )
الكلام متصل بما قبله من ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=32423تعلات اليهود واعتذارهم عن عدم الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من البينات والهدى ، زعموا أنهم مؤمنون بكتاب ولا حاجة لهم بهداية في غيره ، فاحتج عليهم بما ينقض دعواهم ، وزعموا أنهم ناجون في الآخرة على كل حال ؛ لأنهم شعب الله وأبناؤه ، فأبطل زعمهم ، ثم ذكر لهم تعلة أخرى أغرب مما سبقها ، وفندها
[ ص: 324 ] كما فند ما قبلها ، وهي أن
جبريل الذي ينزل بالوحي على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عدوهم فلا يؤمنون بوحي يجيء هو به . وقد جاء في أسباب النزول روايات عنهم في ذلك .
منها : أن
عبد الله بن صوريا من علمائهم سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي فقال : هو
جبريل ، فزعم أنه عدو
اليهود ، وذكر من عداوته أنه أنذرهم خراب
بيت المقدس فكان ، ومنها : أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دخل مدراسهم ، فذكر
جبريل ، فقالوا : ذاك عدونا ، يطلع
محمدا على أسرارنا ، وأنه صاحب كل خسف وعذاب ،
وميكائيل صاحب الخصب والسلم . . . إلخ ، وهذا القول هراء ، وخطله بين ، وإنما عني القرآن بذكره ورده ؛ لأنه مؤذن بتعنتهم وعنادهم ، وشاهد على فساد تصورهم وعدم تدبرهم ؛ ليعلم الذين كانوا ينتظرون ما يقول
أهل الكتاب فيه أنه لا قيمة لأقوالهم ولا اعتداد بمرائهم وجدالهم .
nindex.php?page=treesubj&link=28973_29755قال - تعالى - : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) أي قل لهم أيها الرسول حكاية عن الله - تعالى - : من كان عدوا
لجبريل ، فإن شأن
جبريل كذا ؛ فهو إذا عدو لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها ولهداية الله - تعالى - لخلقه وبشراه للمؤمنين على ما يأتي في بيان ذلك . قال شيخنا في تقييد تنزيله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97بإذن الله ) : وإذا كان يناجي روحك ويخاطب قلبك بإذن الله لا افتياتا من نفسه ، فعداوته لا يصح أن تصد عن الإيمان بك ، وليس للعاقل أن يتخذها تعلة وينتحلها عذرا ، فإن القرآن من عند الله لا من عنده . فقوله : ( بإذن الله ) حجة أولى عليهم ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97مصدقا لما بين يديه ) أي : حال كونه موافقا للكتب التي تقدمته في الأصول التي تدعو إليها من التوحيد واتباع الحق والعمل الصالح ، ومطابقا لما فيها من البشارات بالنبي الذي يجيء من أبناء
إسماعيل ، كأنه يقول : فآمنوا به لهذه المطابقة والموافقة ، لا لأن
جبريل واسطة في تبليغه وتنزيله ، وهذه حجة ثانية ، ثم عززها بثالثة وهي قوله : ( وهدى ) أي : نزله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان ، فألقت أهلها في حضيض الهوان ، والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه من ضلال هو فيه ؛ لأن الواسطة في مجيئها كان عدوا له من قبل ، فإن هذا الرفض من عمل الغبي الجاهل الذي لا يعرف الخير بذاته وإنما يعرفه بمن كان سببا في حصوله . ثم أيد الحجج الثلاث برابعة ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97وبشرى للمؤمنين ) أي : إذا كنتم تعادون
جبريل لأنه أنذر بخراب
بيت المقدس فهو إنما أنذر المفسدين ، وقد أنزل هذا القرآن علي بشرى للمؤمنين ، فما لكم أن تتركوا هذه البشرى إن كنتم من أهل الإيمان ، لأن الذي نزل بها قد نزل بإنذار أهل الفساد والطغيان .
ومن مباحث اللفظ في الآية : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29751جبريل اسم أعجمي مركب من " جبر " ومعناه بالعبرانية أو السريانية : القوة ، ومن " إيل " ، ومعناه : الإله ، أي قوة الله ، وقيل : معناه عبد الله . وفيه 13 لغة منها ثمان لغات قرئ بهن ، أربع في المشهورات : جبرئيل كسلسبيل ، قرأ بها
حمزة [ ص: 325 ] nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وجبريل بفتح الراء وحذف الهمزة قرأ بها
ابن كثير والحسن وابن محيصن ، وجبرئل كجحمرش قرأ بها
عاصم برواية
أبي بكر ،
وجبريل كقنديل قرأ بها الباقون . وأربع في الشواذ : جبرإل ، وجبرائيل ، وجبرئل ، وجبرين .
ومنها أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97نزله على قلبك ) ورد على طريق الالتفات عن التكلم إلى الخطاب إذ كان مقتضى السياق أن يقول : ( نزله على قلبي ) وقد قالوا في نكتته : إنها حكاية ما خاطبه الله - تعالى - به . ولا أرى صاحب الذوق السليم إلا مستنكرا صيغة التكلم في هذا المقام ، والعلة في ذلك لا تبعد عن الأفهام ، ومنها أن الضمير المنصوب البارز في ( نزله ) للقرآن وهو لم يذكر فيما قبلها ، وإنما عينته قرينة الحال ، وذلك يدل على فخامة شأنه ، كأنه لشهرته قد استغنى عن ذكره ( قاله
البيضاوي ) .
أقام الحجج على حماقتهم وسخفهم في دعوى عداوة
جبريل ، وبيان أنها لا يصح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله بتلك الصفات التي طويت فيها الحجج ، ثم بين في آية أخرى حقيقة حالهم في هذه العداوة فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98من كان عدوا لله ) بكفره بما ينزله من الهداية ( وملائكته ) برفض الحق والخير الذي فطروا عليه ، وكراهة القيام بما يعهد به إليهم ربهم - عز وجل - ؛ لأنهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=29737لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) ( 66 : 6 ) ، ( ورسله ) بتكذيب بعض وقتل بعض (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98nindex.php?page=treesubj&link=29747وجبريل وميكال ) بأن الأول ينزل بالآيات والنذر ، ومن كان عدوا
لجبريل فهو عدو
لميكال ؛ لأن فطرتهما واحدة ، وحقيقتهما واحدة ، من مقتها وعاداها في أحدهما فقد عاداها في الآخر (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98فإن الله عدو للكافرين ) أي من عادى الله وعادى هؤلاء المقربين من الله الذين جعلهم رحمة لخلقه فإن الله عدو له ؛ لأنه كافر بالله ومعاد له ، والله عدو للكافرين أي يعاملهم معاملة الأعداء للأعداء ، وهم الظالمون لأنفسهم إذ دعاهم فلم يقبلوا أن يكونوا مع الأولياء ( وميكال ) بوزن ميعاد قراءة
أبي عمرو ويعقوب وعاصم برواية
حفص ، وقرأ
نافع ( ميكائل ) ،
وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وابن عامر ( ميكائيل ) وفي الشواذ : ميكئل ، وميكئيل ؛ وميكاييل .
قال الأستاذ الإمام : هذا وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها ، وهم لم يدعوا عداوة هؤلاء كلهم ولكنهم كذلك في نفس الأمر ، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقع ، وهي أنهم أعداء الحق وأعداء كل من يمثله وينقله ويدعو إليه ، فالتصريح بعداوة
جبريل كالتصريح بعداوة
ميكال الذي يزعمون أنهم يحبونه ، وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي ، لو كان هو الذي ينزل بالوحي عليه . ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب الإلهية ؛ لأن الغرض من الجميع واحد . ومعاداة
محمد - صلى الله عليه وسلم - كمعاداة سائر رسل الله ؛ لأن وظيفتهم واحدة ، فقولهم السابق وحالهم يدلان على معاداة كل من ذكر ، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي انفرد بها .
وفي قوله - تعالى - : ( للكافرين ) وضع للمظهر في موضع المضمر ؛ لبيان أن سبب عداوته
[ ص: 326 ] - تعالى - لهم هو الكفر ، فإن الله لا يعادي قوما لذواتهم ولا لأنسابهم ، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو .
( أقول ) : وقد تقدم غير مرة أن عذاب الله وانتقامه من الكفرة الفجرة لا يشبه انتقام ملوك الدنيا وزعمائها ، وإنما قضت سنته - تعالى - بأن يكون لكل عمل يعمله الإنسان في ظاهره أو في نفسه وضميره أثر في نفس العامل يزكيها ويدسيها ،
nindex.php?page=treesubj&link=29468وسعادة الإنسان في الآخرة أو شقاؤه تابع لآثار اعتقاداته وأعماله في نفسه . ولذلك قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=76وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) ( 43 : 76 ) .
ثم صرح بأن
nindex.php?page=treesubj&link=29568القرآن منزل من عند الله وحده ، وأنه في نفسه آيات بينات لا يحتاج إلى آية أخرى تبينه وتشهد له ، فإن ما كان بينا في نفسه أولى بالقبول مما يحتاج في بيانه إلى غيره ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=99ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ) وقد تقدم أن الوحي من الله للنبي يسمى تنزيلا وإنزالا ونزولا لبيان علو مرتبة الربوبية ، لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض .
قال هذا شيخنا :
nindex.php?page=treesubj&link=28728وعلو الله - تعالى - على خلقه حقيقة أثبتها لنفسه في كتابه ، لا حاجة إلى تأويلها بعلو مرتبة الربوبية على مرتبة المخلوقين هربا من استلزامها الحصر والتحيز في جهة واحدة ، فإن التنزيه القطعي يبطل اللزوم . ومسألة الجهات نسبية لا حقيقية ، وإذ كان الرب - تعالى - بائنا من خلقه وهو من ورائهم محيط ، فهم أينما كانوا يتوجهون إليه إلا أنه فوقهم ، وإذا كان الملائكة (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50يخافون ربهم من فوقهم ) ( 16 : 50 ) فماذا يقال فيمن دونهم ؟ وتوجه البشر إلى ربهم في جهة العلو وقبل السماء فطري معروف في جميع أهل الملل ، فهو فوق الخلق في جملته وفوق العباد أينما كانوا من أرض أو سماء ، وهنالك مقام الإطلاق الذي لا يقيد بقيد ولا يحصر في حيز ، وإنما الحيز والحصر من الأمور النسبية والاعتبارية في داخل دائرة الخلق . وصح في الحديث :
أن الملائكة إذا سمعوا كلام الله في السماوات عراهم ما عراهم مما أشير إليه في قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=23حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) ( 34 : 23 ) .
وشيخنا على دعوته إلى مذهب السلف كان لا يزال متأثرا بمذهب
الأشعرية .
وأما كون
nindex.php?page=treesubj&link=28899آيات القرآن بينات فهي أنها بإعجازها البشر وبقرن المسائل الاعتقادية فيها ببراهينها ، والأحكام الأدبية والعلمية بوجوه منافعها ، لا تحتاج إلى دليل آخر يدل على أنها هداية من الله - تعالى - وأنها جديرة بالاتباع ، بل هي دليل على نفسها عند صاحب الفطرة السليمة كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى شيء آخر يظهره (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=99وما يكفر بها إلا الفاسقون ) الذين خرجوا من نور الفطرة وانغمسوا في ظلمة التقليد ، فتركوا طلب الحق بذاته لاعتقادهم أن فطرتهم ناقصة لا استعداد فيها لإدراكه بذاته على شدة ظهوره ، وإنما يطلبونه من كلام مقلديهم ، وكذا الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه وعنادا له .
[ ص: 327 ] بعد هذا كله بين الله - تعالى - شأنين من شئون
أهل الكتاب وهما : أنه لا ثقة بهم في شيء لما عرف عنهم من نقض العهود ، وأنه لا رجاء في إيمان أكثرهم ؛ لأن الضلالة قد ملكت عليهم أمرهم إلا قليلا منهم ، فإن كان ما تقدم من الأعمال والأقوال قد صدر عن بعضهم ، وإن كان نقض العهود قد وقع في كل زمن من فريق منهم دون فريق ، فلا يتوهمن أحد أن أولئك هم الأقلون ، كلا بل هم الأكثرون ، ولذلك قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=100nindex.php?page=treesubj&link=28973_31931أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ) ، همزة الاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف ، أي : أكفروا بالآيات وقالوا ما قالوا ، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ النبذ : طرح الشيء وإلقاؤه ، والمراد بالعهود هنا عهودهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولما كان لفظ ( فريق ) يوهم العدد القليل ، وكان الواقع أن الذين كانوا يرون الوفاء له - صلى الله عليه وسلم - قليلون ، والناقضين هم الأكثرون أضرب عنه وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=100بل أكثرهم لا يؤمنون ) فهم لا أيمان لهم ؛ لأنهم لا إيمان لهم ، أي لا عهود لهم . وفيه من خبر الغيب أن أكثر
اليهود لا يؤمنون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك كان وصدق الله العظيم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97nindex.php?page=treesubj&link=28973_29755قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=99وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=100أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ )
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ
nindex.php?page=treesubj&link=32423تَعِلَّاتِ الْيَهُودِ وَاعْتِذَارِهِمْ عَنْ عَدَمِ الْإِيْمَانِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، زَعَمُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِكِتَابٍ وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِدَايَةٍ فِي غَيْرِهِ ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَنْقُضُ دَعْوَاهُمْ ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُمْ شَعْبُ اللَّهِ وَأَبْنَاؤُهُ ، فَأَبْطَلَ زَعْمَهُمْ ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ تَعِلَّةً أُخْرَى أَغْرَبَ مِمَّا سَبَقَهَا ، وَفَنَّدَهَا
[ ص: 324 ] كَمَا فَنَّدَ مَا قَبْلَهَا ، وَهِيَ أَنَّ
جِبْرِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَدُوُّهُمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِوَحْيٍ يَجِيءُ هُوَ بِهِ . وَقَدْ جَاءَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ رِوَايَاتٌ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ .
مِنْهَا : أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صُورِيَّا مِنْ عُلَمَائِهِمْ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ فَقَالَ : هُوَ
جِبْرِيلُ ، فَزَعَمَ أَنَّهُ عَدُوُّ
الْيَهُودِ ، وَذَكَرَ مِنْ عَدَاوَتِهِ أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ خَرَابَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَانَ ، وَمِنْهَا : أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ مِدْرَاسَهَمْ ، فَذَكَرَ
جِبْرِيلَ ، فَقَالُوا : ذَاكَ عَدُوُّنَا ، يُطْلِعُ
مُحَمَّدًا عَلَى أَسْرَارِنَا ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ كُلِّ خَسْفٍ وَعَذَابٍ ،
وَمِيكَائِيلُ صَاحِبُ الْخِصْبِ وَالسَّلْمِ . . . إِلَخْ ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُرَاءٌ ، وَخَطَلُهُ بَيِّنٌ ، وَإِنَّمَا عُنِيَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِهِ وَرَدِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِتَعَنُّتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ، وَشَاهِدٌ عَلَى فَسَادِ تَصَوُّرِهِمْ وَعَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ ؛ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَا يَقُولُ
أَهْلُ الْكِتَابِ فِيهِ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِأَقْوَالِهِمْ وَلَا اعْتِدَادَ بِمِرَائِهِمْ وَجِدَالِهِمْ .
nindex.php?page=treesubj&link=28973_29755قَالَ - تَعَالَى - : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ - تَعَالَى - : مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ ، فَإِنَّ شَأْنَ
جِبْرِيلَ كَذَا ؛ فَهُوَ إذًا عَدُوٌّ لِوَحْيِ اللَّهِ الَّذِي يَشْمَلُ التَّوْرَاةَ وَغَيْرَهَا وَلِهِدَايَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِخَلْقِهِ وَبُشْرَاهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَيَانِ ذَلِكَ . قَالَ شَيْخُنَا فِي تَقْيِيدِ تَنْزِيلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97بِإِذْنِ اللَّهِ ) : وَإِذَا كَانَ يُنَاجِي رُوحَكَ وَيُخَاطِبُ قَلْبَكَ بِإِذْنِ اللَّهِ لَا افْتِيَاتًا مِنْ نَفْسِهِ ، فَعَدَاوَتُهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَصُدَّ عَنِ الْإِيْمَانِ بِكَ ، وَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّخِذَهَا تَعِلَّةً وَيَنْتَحِلَهَا عُذْرًا ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ . فَقَوْلُهُ : ( بِإِذْنِ اللَّهِ ) حُجَّةٌ أُولَى عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) أَيْ : حَالَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْكُتُبِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ فِي الْأُصُولِ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَمُطَابِقًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَاتِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ أَبْنَاءِ
إِسْمَاعِيلَ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : فَآمِنُوا بِهِ لِهَذِهِ الْمُطَابَقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ ، لَا لِأَنَّ
جِبْرِيلَ وَاسِطَةٌ فِي تَبْلِيغِهِ وَتَنْزِيلِهِ ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ ، ثُمَّ عَزَّزَهَا بِثَالِثَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ : ( وَهُدًى ) أَيْ : نَزَّلَهُ هَادِيًا مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَى الْأَدْيَانِ ، فَأَلْقَتْ أَهْلَهَا فِي حَضِيضِ الْهَوَانِ ، وَالْعَاقِلُ لَا يَرْفُضُ الْهِدَايَةَ الَّتِي تَأْتِيهِ وَتُنْقِذُهُ مِنْ ضَلَالٍ هُوَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ فِي مَجِيئِهَا كَانَ عَدُوًّا لَهُ مِنْ قَبْلُ ، فَإِنَّ هَذَا الرَّفْضَ مِنْ عَمَلِ الْغَبِيِّ الْجَاهِلِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْخَيْرَ بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ بِمَنْ كَانَ سَبَبًا فِي حُصُولِهِ . ثُمَّ أَيَّدَ الْحُجَجَ الثَّلَاثَ بِرَابِعَةٍ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) أَيْ : إِذَا كُنْتُمْ تُعَادُونَ
جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ أَنْذَرَ بِخَرَابِ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهُوَ إِنَّمَا أَنْذَرَ الْمُفْسِدِينَ ، وَقَدْ أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَيَّ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، فَمَا لَكُمَ أَنْ تَتْرُكُوا هَذِهِ الْبُشْرَى إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيْمَانِ ، لِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِهَا قَدْ نَزَلَ بِإِنْذَارِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالطُّغْيَانِ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29751جِبْرِيلَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ " جِبْرَ " وَمَعْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ أَوِ السِّرْيَانِيَّةِ : الْقُوَّةُ ، وَمِنْ " إِيلَ " ، وَمَعْنَاهُ : الْإِلَهُ ، أَيْ قُوَّةُ اللَّهِ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ . وَفِيهِ 13 لُغَةً مِنْهَا ثَمَانِ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهِنَّ ، أَرْبَعٌ فِي الْمَشْهُورَاتِ : جَبْرَئِيلُ كَسَلْسَبِيلٍ ، قَرَأَ بِهَا
حَمْزَةُ [ ص: 325 ] nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ ،
وَجِبْرَيِلُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ قَرَأَ بِهَا
ابْنُ كَثِيرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ ، وَجَبْرَئِلُ كَجَحْمَرِشٍ قَرَأَ بِهَا
عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ
أَبِي بَكْرٍ ،
وَجِبْرِيلُ كَقِنْدِيلٍ قَرَأَ بِهَا الْبَاقُونَ . وَأَرْبَعٌ فِي الشَّوَاذِّ : جَبْرَإِلُ ، وَجَبْرَائِيلُ ، وَجَبْرِئْلُ ، وَجَبْرِينُ .
وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ) وَرَدَ عَلَى طَرِيقِ الْالْتِفَاتِ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ إِذْ كَانَ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ : ( نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِي ) وَقَدْ قَالُوا فِي نُكْتَتِهِ : إِنَّهَا حِكَايَةُ مَا خَاطَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ . وَلَا أَرَى صَاحِبَ الذَّوْقِ السَّلِيمِ إِلَّا مُسْتَنْكِرًا صِيغَةَ التَّكَلُّمِ فِي هَذَا الْمُقَامِ ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ لَا تَبْعُدُ عَنِ الْأَفْهَامِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ الْبَارِزَ فِي ( نَزَّلَهُ ) لِلْقُرْآنِ وَهُوَ لَمْ يُذْكَرْ فِيمَا قَبْلَهَا ، وَإِنَّمَا عَيَّنَتْهُ قَرِينَةُ الْحَالِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَخَامَةِ شَأْنِهِ ، كَأَنَّهُ لِشُهْرَتِهِ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ ( قَالَهُ
الْبَيْضَاوِيُّ ) .
أَقَامَ الْحُجَجَ عَلَى حَمَاقَتِهِمْ وَسُخْفِهِمْ فِي دَعْوَى عَدَاوَةِ
جِبْرِيلَ ، وَبَيَانِ أَنَّهَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً مِنَ الْإِيْمَانِ بِكِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي طُوِيَتْ فِيهَا الْحُجَجُ ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى حَقِيقَةَ حَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْعَدَاوَةِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ ) بِكُفْرِهِ بِمَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْهِدَايَةِ ( وَمَلَائِكَتِهِ ) بِرَفْضِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ الَّذِي فُطِرُوا عَلَيْهِ ، وَكَرَاهَةِ الْقِيَامِ بِمَا يَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ - عَزَّ وَجَلَّ - ؛ لِأَنَّهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=29737لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( 66 : 6 ) ، ( وَرُسُلِهِ ) بِتَكْذِيبِ بَعْضٍ وَقَتْلِ بَعْضٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98nindex.php?page=treesubj&link=29747وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ) بِأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِلُ بِالْآيَاتِ وَالنُّذُرِ ، وَمَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَهُوَ عَدُوٌّ
لِمِيكَالَ ؛ لِأَنَّ فِطْرَتَهُمَا وَاحِدَةٌ ، وَحَقِيقَتَهُمَا وَاحِدَةٌ ، مَنْ مَقَتَهَا وَعَادَاهَا فِي أَحَدِهِمَا فَقَدْ عَادَاهَا فِي الْآخَرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ) أَيْ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَعَادَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ اللَّهِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ رَحْمَةً لِخَلْقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ وَمُعَادٍ لَهُ ، وَاللَّهُ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ أَيْ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ لِلْأَعْدَاءِ ، وَهُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ دَعَاهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْأَوْلِيَاءِ ( وَمِيكَالَ ) بِوَزْنِ مِيعَادٍ قِرَاءَةُ
أَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ وَعَاصِمٍ بِرِوَايَةِ
حَفْصٍ ، وَقَرَأَ
نَافِعٌ ( مِيكَائِلَ ) ،
وَحَمْزَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ ( مِيكَائِيلَ ) وَفِي الشَّوَاذِّ : مِيكَئِلُ ، وَمِيكَئِيلُ ؛ وَمِيكَايِيلُ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بَعْدَ بَيَانِ فَسَادِ الْعِلَّةِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا ، وَهُمْ لَمْ يَدَّعُوا عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ وَلَكِنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ فِي الْوَاقِعِ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ أَعْدَاءُ الْحَقِّ وَأَعْدَاءُ كُلِّ مَنْ يُمَثِّلُهُ وَيَنْقُلُهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ ، فَالتَّصْرِيحُ بِعَدَاوَةِ
جِبْرِيلَ كَالتَّصْرِيحِ بِعَدَاوَةِ
مِيكَالَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ ، لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَيْهِ . وَمُعَادَاةُ الْقُرْآنِ كَمُعَادَاةِ سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ . وَمُعَادَاةُ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمُعَادَاةِ سَائِرِ رُسُلِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ وَظِيفَتَهُمْ وَاحِدَةٌ ، فَقَوْلُهُمُ السَّابِقُ وَحَالُهُمْ يَدُلَّانِ عَلَى مُعَادَاةِ كُلِّ مَنْ ذَكَرَ ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا .
وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : ( لِلْكَافِرِينَ ) وَضْعٌ لِلْمُظْهَرِ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ ؛ لِبَيَانِ أَنَّ سَبَبَ عَدَاوَتِهِ
[ ص: 326 ] - تَعَالَى - لَهُمْ هُوَ الْكُفْرُ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَادِي قَوْمًا لِذَوَاتِهِمْ وَلَا لِأَنْسَابِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ لَهُمُ الْكُفْرَ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ مُعَاقَبَةَ الْعَدُوِّ لِلْعَدُوِّ .
( أَقُولُ ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ وَانْتِقَامَهُ مِنَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ لَا يُشْبِهُ انْتِقَامَ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَزُعَمَائِهَا ، وَإِنَّمَا قَضَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ وَضَمِيرِهِ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ يُزَكِّيهَا وَيُدَسِّيهَا ،
nindex.php?page=treesubj&link=29468وَسَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ شَقَاؤُهُ تَابِعٌ لِآثَارِ اعْتِقَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ فِي نَفْسِهِ . وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=76وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) ( 43 : 76 ) .
ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29568الْقُرْآنَ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَحْدَهُ ، وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى تُبَيِّنُهُ وَتَشْهَدُ لَهُ ، فَإِنَّ مَا كَانَ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا يَحْتَاجُ فِي بَيَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=99وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ يُسَمَّى تَنْزِيلًا وَإِنْزَالًا وَنُزُولًا لِبَيَانِ عُلُوِّ مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ، لَا أَنَّ هُنَاكَ نُزُولًا حِسِّيًّا مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ .
قَالَ هَذَا شَيْخُنَا :
nindex.php?page=treesubj&link=28728وَعُلُوُّ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى خَلْقِهِ حَقِيقَةٌ أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ ، لَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهَا بِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى مَرْتَبَةِ الْمَخْلُوقِينَ هَرَبًا مِنِ اسْتِلْزَامِهَا الْحَصْرَ وَالتَّحَيُّزَ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنَّ التَّنْزِيهَ الْقَطْعِيَّ يُبْطِلُ اللُّزُومَ . وَمَسْأَلَةُ الْجِهَاتِ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ ، وَإِذْ كَانَ الرَّبُّ - تَعَالَى - بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ، فَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ فَوْقَهُمْ ، وَإِذَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ) ( 16 : 50 ) فَمَاذَا يُقَالُ فِيمَنْ دُونَهُمْ ؟ وَتُوَجُّهُ الْبَشَرِ إِلَى رَبِّهِمْ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ وَقِبَلَ السَّمَاءِ فِطْرِيٌّ مَعْرُوفٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ ، فَهُوَ فَوْقَ الْخَلْقِ فِي جُمْلَتِهِ وَفَوْقَ الْعِبَادِ أَيْنَمَا كَانُوا مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَمَاءٍ ، وَهُنَالِكَ مَقَامُ الْإِطْلَاقِ الَّذِي لَا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا يُحْصَرُ فِي حَيِّزٍ ، وَإِنَّمَا الْحَيِّزُ وَالْحَصْرُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْاعْتِبَارِيَّةِ فِي دَاخِلِ دَائِرَةِ الْخَلْقِ . وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ :
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ عَرَاهُمْ مَا عَرَاهُمْ مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=23حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( 34 : 23 ) .
وَشَيْخُنَا عَلَى دَعْوَتِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ كَانَ لَا يَزَالُ مُتَأَثِّرًا بِمَذْهَبِ
الْأَشْعَرِيَّةِ .
وَأَمَّا كَوْنُ
nindex.php?page=treesubj&link=28899آيَاتِ الْقُرْآنِ بَيِّنَاتٍ فَهِيَ أَنَّهَا بِإِعْجَازِهَا الْبَشَرَ وَبِقَرْنِ الْمَسَائِلِ الْاعْتِقَادِيَّةِ فِيهَا بِبَرَاهِينِهَا ، وَالْأَحْكَامُ الْأَدَبِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ بِوُجُوهِ مَنَافِعِهَا ، لَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هِدَايَةٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِالْاتِّبَاعِ ، بَلْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى نَفْسِهَا عِنْدَ صَاحِبِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ كَالنُّورِ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ يُظْهِرُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=99وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ) الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ وَانْغَمَسُوا فِي ظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ ، فَتَرَكُوا طَلَبَ الْحَقِّ بِذَاتِهِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ فِطْرَتَهُمْ نَاقِصَةٌ لَا اسْتِعْدَادَ فِيهَا لِإِدْرَاكِهِ بِذَاتِهِ عَلَى شِدَّةِ ظُهُورِهِ ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ كَلَامِ مُقَلِّدِيهِمْ ، وَكَذَا الَّذِينَ ظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى حَسَدًا لِمَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ وَعِنَادًا لَهُ .
[ ص: 327 ] بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ بَيَّنَ اللَّهُ - تَعَالَى - شَأْنَيْنِ مِنْ شُئُونِ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمَا : أَنَّهُ لَا ثِقَةَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ لِمَا عُرِفَ عَنْهُمْ مِنْ نَقْضِ الْعُهُودِ ، وَأَنَّهُ لَا رَجَاءَ فِي إِيْمَانِ أَكْثَرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ قَدْ مَلَكَتْ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ قَدْ صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ نَقْضُ الْعُهُودِ قَدْ وَقَعَ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ دُونَ فَرِيقٍ ، فَلَا يَتَوَهَّمَنَّ أَحَدٌ أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْأَقَلُّونَ ، كَلَّا بَلْ هُمُ الْأَكْثَرُونَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=100nindex.php?page=treesubj&link=28973_31931أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) ، هَمْزَةُ الْاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ ، أَيْ : أَكَفَرُوا بِالْآيَاتِ وَقَالُوا مَا قَالُوا ، وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ؟ النَّبْذُ : طَرْحُ الشَّيْءِ وَإِلْقَاؤُهُ ، وَالْمُرَادُ بِالْعُهُودِ هُنَا عُهُودُهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ ( فَرِيقٌ ) يُوهِمُ الْعَدَدَ الْقَلِيلَ ، وَكَانَ الْوَاقِعُ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْوَفَاءَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلِيلُونَ ، وَالنَّاقِضِينَ هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَضْرَبَ عَنْهُ وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=100بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) فَهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا إِيْمَانَ لَهُمْ ، أَيْ لَا عُهُودَ لَهُمْ . وَفِيهِ مَنْ خَبَرِ الْغَيْبِ أَنَّ أَكْثَرَ
الْيَهُودِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَكَذَلِكَ كَانَ وَصَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ .