[ ص: 329 ] مبحث وهاروت وماروت السحر
ثم ذكر - تعالى - أن أولئك الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم - مجاحدة للنبي صلى الله عليه وسلم وحسدا له - قد تبدلوا الكفر بالإيمان واشتروا الضلالة بالهدى ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين ) من الإنس في قصصها وأساطيرها ، أو من الجن في وسوستها ، أو منهما جميعا على حد قوله - تعالى - : ( شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) ( 6 : 112 ) ( على ملك سليمان ) أي ما كانت تتلو على عهده وفي أيام ملكه ، إذ زعموا أن ملكه قام على أساس السحر والطلسمات ، وأنه ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام مرضاة لنسائه الوثنيات ( وما كفر سليمان ) وما سحر ( ولكن ) أولئك ( الشياطين ) الذين يسندون إليه ما انتحلوه من السحر ، وما تلبسوا به من الكفر ، هم الذين ( كفروا يعلمون الناس السحر ) ليفتنوا به العامة ويضلونهم عن طلب الأشياء من أسبابها الظاهرة ومناهجها المشروعة .
هذه الأوهام والأكاذيب على نبي الله سليمان - عليه السلام - مما افتجره بعض الدجالين من بني إسرائيل ووسوسوا به إلى بعض المسلمين فصدقوهم في بعض ما زعموه من حكايات السحر ، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر ، وإنك لترى دجاجلة المسلمين إلى اليوم يتلون أقساما وعزائم ، ويخطون خطوطا وطلاسم ويسمون ذلك خاتم سليمان وعهوده ، ويزعمون أنها تقي حاملها من اعتداء الجن ومس العفاريت ، ولقد رأى كاتب هذا التفسير شيئا من ذلك ، وكان في أيام حداثته يصدق به ويعتقد فائدته .
وقد اليهود أن سليمان سحر ودفن السحر تحت كرسيه ، وأنه أضاع خاتمه الذي كان به ملكه ، فوقع في يد آخر وجلس مجلسه للحكم ، إلى آخر ما خلطوا فيه التاريخ بالدجل . زعم
وروي عنهم أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ، ثم استخرجها الناس وتناقلوها . وفي رواية أخرى : أنه إنما دفن تحت كرسيه كتبا أخرى في العلوم ، فلما استخرجت ، أشاع الشياطين أنها كتب سحر ، وأنشأ الدجالون بعد ذلك ينتحلون ما شاءوا وينسبونه إلى تلك الكتب . ولا شك أن ما قالوه على سليمان وملكه من خبر السحر والكفر مكذوب ، افتراه أهل الأهواء وقد قصه الله - تعالى - علينا ؛ لنعتبر بما افتراه هؤلاء الناس على الأنبياء وبترجيح فريق من خلفهم الاشتغال بذلك على الاهتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إنهم نبذوا كتابهم الذي بشر به وراء ظهورهم .
ومن البديهي أن ذكر القصة في القرآن لا يقتضي أن يكون كل ما يحكى فيها عن الناس صحيحا ، فذكر السحر في هذه الآيات لا يستلزم إثبات ما يعتقد الناس منه ، كما أن نسبة الكفر إلى سليمان التي علمت من النفي لا تستلزم أن تكون صحيحة ؛ لأنها ذكرت في القرآن ولو لم يكن ذكرها في سياق النفي .
[ ص: 330 ] ( قال الأستاذ الإمام ما مثاله ) : بينا غير مرة أن ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين ، وإنه ليحكى من عقائدهم الحق والباطل ، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب ، ومن عاداتهم النافع والضار ، لأجل الموعظة والاعتبار ، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية ، ولا بد أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحسن واستهجان القبيح . وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكي عنهم وإن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله : ( القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) ( 2 : 275 ) وكقوله : ( بلغ مطلع الشمس ) ( 18 : 90 ) وهذا الأسلوب مألوف ، فإننا نرى كثيرا من كتاب اللغة العربية وكتاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم ولا سيما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريين القدماء ، ولا يعتقد أحد منهم شيئا من تلك الخرافات الوثنية .
ويقول أهل السواحل : غربت الشمس ، أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء ، ولا يعتقدون ذلك وإنما يعبرون به عن المرئي .
جاء ذكر السحر في مواضع متعددة في القرآن ، وأكثره في قصة موسى وفرعون ، وذكر هنا في الكلام عن اليهود . وإذا أردنا فهمه من عرف اللغة وجدنا أن ، وقالوا : سحره وسحره بمعنى خدعه وعلله ، وقالوا : عين ساحرة وعيون سواحر ، وفي الحديث الصحيح : ( ( السحر عند العرب كل ما لطف مأخذه ودق وخفي ) ) ، والسحر بالفتح وبالتحريك الرئة وهي أصل هذه المادة ، والرئة في الباطن ، فما لطف مأخذه ودق صنعه حتى لا يهتدي إليه غير أهله فهو باطن خفي ، ومنه الخداع : وهو أن يظهر لك شيء غير الواقع في نفس الأمر ، فالواقع باطن خفي ، وتأثير العيون في عشاق الحسان ، والكلام البليغ في عشاق البيان ، مما يخفى مسلكه ويدق سببه ، حتى يعسر على أكثر الناس الوقوف على العلة في تأثيره . إن من البيان لسحرا
وقد وصف الله السحر في القرآن بأنه تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس بكائن كائنا فقال : ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) ( 20 : 66 ) والكلام في حبال السحرة وعصيهم ، وفي آية أخرى ( سحروا أعين الناس واسترهبوهم ) ( 7 : 116 ) وفي هذه الآية التي نفسرها أن السحر كان يؤخذ بالتعليم ، والتاريخ يشهد بهذا ، وقد كان المصريون يطلقون لقب الساحر على العالم ، كما يؤخذ من قوله - تعالى - : ( وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك ) ( 43 : 49 ) ومجموع هذه النصوص يدل على أن السحر إما حيلة وشعوذة ، وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس ويجهلها الأكثرون فيسمون العمل بها سحرا لخفاء سببه ولطف مأخذه ، ويمكن أن يعد منه تأثير النفس الإنسانية في نفس أخرى لمثل هذه العلة . وقد قال المؤرخون : إن سحرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيات والثعابين وتخييل أنها تسعى .
[ ص: 331 ] وقد اعتاد الذين اتخذوا التأثيرات النفسية صناعة ووسيلة للمعاش أن يستعينوا بكلام مبهم وأسماء غريبة اشتهر عند الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجان ، وأنهم يحضرون إذا دعوا بها ويكونون مسخرين للداعي . ولمثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم عرف بالتجربة ، وسببه اعتقاد الواهم أن الشياطين يستجيبون لقارئه ويطيعون أمره ، ومنهم من يعتقد أن فيه خاصية التأثير وليس فيه ، وإنما تلك العقيدة الفاسدة تفعل في النفس الواهمة ما يغني منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته . وهذا هو السبب في اعتقاد الدهماء أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب .