( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) .
قال الرازي : في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :
( الأول ) أنه تعالى لما قال : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) صار التقدير كأنه قال : ما بلغه الرسول إليكم فخذوه وكونوا منقادين له ، وما لم يبلغه الرسول إليكم فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه ، فإنكم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل ويشق عليكم .
( الثاني ) أنه تعالى لما قال : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) وهذا ادعاء منه للرسالة ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخرى على سبيل التعنت كما [ ص: 106 ] قال حاكيا عنهم : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا 17 : 90 ) إلى قوله : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا 17 : 93 ) والمعنى أني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام إليكم ، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواه في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات ، فبعد ذلك يكون طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي ، ولعل إظهارها يوجب ما يسوؤكم ، مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا ، ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم ، بهذه المعجزات وقع في قلوبهم إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي لهم أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوؤهم .
( الوجه الثالث ) أن هذا متصل بقوله : ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخفية إن تبد لكم تسؤكم . انتهى كلام الرازي بنصه وضعف عبارته .
وأقول : إن مناسبة هاتين الآيتين لآية تبليغ الرسول للرسالة مناسبة خاصة قريبة ولهما موقع من مجموع السورة ينبغي تذكره والتأمل فيه : ذلك أن هذه السورة آخر ما نزل من السور كما قالت عائشة ، وسورة النصر ، كما قال : وجمع بينهما ابن ابن عباس عمر ، وقد صرح الله تعالى في أوائلها بإكمال الدين ، وإتمام النعمة به على العالمين ، فناسب أن يصرح فيها بأن الرسول قد أدى ما عليه من وظيفة البلاغ الذي كمل به الإسلام ، وأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يكثروا عليه من السؤال ، لئلا يكون ذلك سببا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها ، فتكون العاقبة أن يسرع إليها الفسوق عن أمر ربها ، وهو معصوم من كتمان شيء مما أمره الله بتبليغه .
فإن قيل : إذا كان الأمر كذلك فلم طال الفصل بين هذا النهي وبين الخبر بإكمال الدين ولم يتصل به في النظم الكريم ؟ قلت : تلك سنة القرآن في تفريق مسائل الموضوع الواحد من أخبار وأحكام وغيرهما لما بيناه مرارا من حكمة ذلك ، وهاك أقوى ما ورد في أسباب نزول الآيتين :
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن وابن جرير قال : " أنس بن مالك لا تسألوا عن أشياء ) قال الحافظ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط وقال فيها : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، قال : فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين فقال رجل : من أبي ؟ قال فلان ، فنزلت هذه الآية [ ص: 107 ] ( ابن كثير وقال : حدثنا ابن جرير بشر حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) الآية ، قال فحدثنا أن حدثه أنس بن مالك حذافة ، قال : ثم قام عمر أو فأنشأ عمر فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله أو قال أعوذ بالله من شر الفتن ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أر في الخير والشر كاليوم قط صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط " أخرجاه ( أي الشيخان ) من طريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال : " لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر ، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي ، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه فقال : يا نبي الله من أبي ؟ قال : أبوك سعيد ، ورواه معمر عن عن الزهري أنس بنحو ذلك أو قريبا منه ، قال : الزهري أم عبد الله بن حذافة : ( ما رأيت ولدا أعق منك ، قالت : أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته ) . فقالت
وقال أيضا : حدثنا ابن جرير عبد العزيز حدثنا قيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن قال : " أبي هريرة حذافة ، فقام ، فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا عمر بن الخطاب وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما ، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا ، قال : فسكن غضبه ونزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) الآية " إسناده جيد . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمرا وجهه حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل فقال أين أبي ؟ قال : في النار فقام آخر فقال : من أبي ؟ قال أبوك
وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف منهم أسباط عن فذكر السدي ابن كثير عنه مثل حديث في جملته وزاد كلام أبي هريرة عمر " " ( ثم قال ) قال فاعف عنا عفا الله عنك ، فلم يزل به حتى رضي : فيومئذ قال : والولد للفراش وللعاهر الحجر : حدثنا البخاري حدثنا الفضل بن سهل أبو النضر حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو الجويرية عن رضي الله عنهما قال : " ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) حتى فرغ من الآية كلها ، تفرد به كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : ( . البخاري
[ ص: 108 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وردان الأسدي حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز علي قال : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ( 3 : 97 ) قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت ، فقالوا : أفي كل عام ؟ فسكت ، قال ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فقال : لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ، فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) الآية " وكذا رواه لما نزلت هذه الآية ( الترمذي عن طريق وابن ماجه منصور بن وردان به ، وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه ، وسمعت يقول : البخاري أبو البختري لم يدرك عليا . ا ه .
أقول : منصور بن وردان ثقة كما قال وغيره ، ابن حبان التابعي ثقة فيه تشيع ، روى عن الجماعة كلهم ، ولكن مراسيله ضعيفة . وأبو البختري هو سعيد بن فيروز
وقد عزا السيوطي في الدر المنثور حديث علي هذا إلى أحمد وحسنه والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وذكر نحوه عن عازيا إياه إلى ابن عباس عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم - قال : وصححه - والبيهقي في سننه ، وفيه أن السائل الأقرع بن حابس ، وذكر مثله أيضا عن الحسن من تخريج وفيه : " عبد بن حميد " إلخ ، وهذه الزيادة من أحاديث الصحيحين وغيرهما عن ذروني ما تركتكم ولفظ أبي هريرة : " البخاري " ولفظ دعوني ما تركتكم مسلم " " . دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم
قال القسطلاني في شرحه له تبعا للحافظ ابن حجر : وسبب هذا الحديث على ما ذكره مسلم ( أقول : وكذا ) من رواية النسائي عن محمد بن زياد رضي الله عنه قال : " أبي هريرة " الحديث وأخرجه خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت : نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم مختصرا فزاد فيه : فنزلت : ( الدارقطني يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) انتهى وأقول : هذا ثقة ، روى عنه الجماعة كلهم . محمد بن زياد
ونص سنن عن النسائي قال : أبي هريرة " روي عن خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج ، فقال رجل : في كل عام ؟ فسكت عنه حتى أعاده ثلاثة فقال : لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ذروني ما تركتم; [ ص: 109 ] فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بالشيء وفي نسخة بشيء فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه مسألة وجوب الحج ابن عباس الأقرع بن حابس قال : " كل عام يا رسول الله ؟ فسكت فقال : لو قلت نعم ، لوجبت ثم إذن لا تسمعون ولا تطيعون ولكنه حجة واحدة ، وفي فتح الباري أن وأن نقل عن رواية ابن عبد البر مسلم أن السؤال عن الحج كان يوم خطب صلى الله عليه وسلم وقال : " " . لا يسألني أحد عن شيء إلا أخبرته
وقال : حدثني ابن جرير إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير عن عن خصيف مجاهد عن ( ابن عباس لا تسألوا عن أشياء ) قال : " هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك : ما جعل الله من كذا ولا كذا " قال : وأما عكرمة فإنه قال : إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك ثم قال : ( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) ، قال فقالت : قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن فما لك تقول هذا ؟ فقال : هيه . ابن عباس
ثم روى مثل قول ابن جرير مجاهد عن ، ثم قال : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل ، كمسألة سعيد بن جبير ابن حذافة إياه من أبوه ، ومسألة سائله إذا قال " وما أشبه ذلك من المسائل ، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل ، وأما القول الذي رواه إن الله فرض عليكم الحج " أفي كل عام ؟ مجاهد عن فغير بعيد عن الصواب ، ولكن الأخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه ، ذكر هنا القول به من أجل ذلك ، على أنه غير مستنكر أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها إلى آخر ما قاله ، وفيه أن تلك الأخبار صحاح فوجب ترجيحها ، ويشير إلى ضعف سند رواية ابن عباس مجاهد ; لأن راويها عنه قد ضعفه خصيف بن عبد الرحمن وقال مرة : ليس بقوي ، وقال الإمام أحمد أبو حاتم : تكلم في سوء حفظه ، ولكن قال فيه : مرة صالح ومرة ثقة . ابن معين
والطريقة المتبعة في الجمع بين أمثال هذه الأحاديث : أن يقال : إن النهى في الآية يشمل كل ما ورد في سبب نزولها وكل ما هو في معناه ، وليس كل ما روي في أسباب النزول كان سببا حقيقيا ، بل كانوا يقولون في كل ما يدخل في معنى الآية ويشمله عمومها : إنها نزلت فيه ، وكثيرا ما ينقلون كلام الرواة بمعناه فيجيء منطوقه متعارضا ، وقد بينا هذه المسألة مرارا ، وأبعد ما قيل في أسباب نزول هذه الآية : أن بعضهم كان يسأل النبي [ ص: 110 ] عن الشيء امتحانا أو استهزاء ، وهذا لا يصدر إلا من كافر صريح أو منافق ، والخطاب في الآية للمؤمنين فلا يمكن نهيا لهم عن سؤال لامتحان أو استهزاء ، وإنما يجوز أن يكون في الآية تعريض بالكافرين والمنافقين .
وفي بعض روايات حديث " أنس بن مالك " إلى آخر الحديث المتقدم ، وفي حديث أن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة في الصحيحين بمعناه : " لأبي موسى الأشعري " فبعض العلماء يرى أن النهي عن السؤال في الآية لهذا الإحفاء والإغضاب الذي آذوا به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن ما شرط في النهي وما علل به ينافي ذلك . فلما أكثروا عليه المسألة غضب وقال : سلوني