( ) . بيان ما أخطأ فيه مثبتو القياس
ثم إن ابن القيم بين أنواع الخطأ الذي وقع فيه مثبتو القياس والرأي في الأحكام الشرعية ، وقفى على ذلك بما هو فصل الخطاب عنده في المسألة فقال :
( فصل ) وأما أصحاب الرأي والقياس فإنهم لما لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها ، وغلاتهم على أنها لم تف بعشر معشارها فوسعوا طرق الرأي والقياس وقالوا بقياس الشبه ، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها ، واستنبطوا عللا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها ، ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس ، ثم اضطربوا فتارة يقدمون القياس وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور ، واضطرهم ذلك أيضا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس فكان خطؤهم من خمسة أوجه .
" الأول : ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث .
" الثاني : معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس .
" الثالث : اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس ، والميزان هو العدل ، فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به هذه الأحكام .
" الرابع : اعتبارهم عللا وأوصافا لم يعلم اعتبار الشارع لها ، وإلغاؤهم عللا وأوصافا اعتبرها الشارع كما تقدم بيانه .
" الخامس : تناقضهم في نفس القياس كما تقدم أيضا . ونحن نعقد هاهنا ثلاثة فصول : " الفصل الأول في بيان شمول النصوص للأحكام والاكتفاء بها عن الرأي والقياس . [ ص: 143 ] " الفصل الثاني في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس وبطلانها مع وجود النص " .
" الفصل الثالث في بيان ( أن ) أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح " وليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح . وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب ، وبها يتبين للعالم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهنيتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما هو عام الرسالة إلى كل مكلف ، فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه ودقيقه وجليله ، فكما لا يخرج أحد عن رسالته فكذلك لا يخرج حكم تحتاج إليه الأمة عنه وعن بيانه له ، ونحن نعلم أنا لا نوفي هذه الفصول حقها ولا نقارب ، وأنها أجل من علومنا ، وفوق إدراكنا ، ولكن ننبه أدنى تنبيه ونشير أدنى إشارة إلى ما نفتح أبوابها وننهج طرقها والله المستعان وعليه التكلان " اهـ .
أقول : إننا لم نجد في الكتاب إلا فصلين من هذه الثلاثة التي وعد بها ، الأول في شمول النصوص وإغنائها على القياس ، والثاني في بيان أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح والميزان المستقيم والموافقة لعقول البشر ومصالحهم ، ولا ندري أسقط الفصل الذي بين فيه سقوط الرأي والاجتهاد والقياس مع وجود النص ؟ أم أغفل كتابته بعد الوعد به نسيانا للوعد واكتفاء باتفاق العلماء على المسألة ، وكون من يعتد بدينه وعلمه من أهل الرأي والقياس كربيعة وأبي حنيفة لم يثبتوا حكما في مسألة فيها نص بالقياس إلا إذا كانوا غير عالمين بالنص أو غير ثابت عندهم ، أو لم يفهموا الحكم منه . والشافعي