قوله : إن في خلق السماوات هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها . والمراد ذات السماوات والأرض وصفاتها واختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما ، وكون كل واحد منهما يخلف الآخر ، وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر ، وتفاوتهما طولا وقصرا وحرا وبردا ، وغير ذلك لآيات أي : دلالات واضحة وبراهين بينة تدل على الخالق سبحانه .
وقد تقدم تفسير بعض ما هنا في سورة البقرة . والمراد بأولي الألباب : أهل العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب النقص ، فإن مجرد التفكير فيما قصه الله في هذه الآية يكفي العاقل ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبه ولا تدفعه التشكيكات .
قوله : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم الموصول نعت لأولي الألباب - وقيل : هو مفصول عنه خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوب على المدح . والمراد بالذكر هنا ذكره سبحانه في هذه الأحوال من غير فرق بين حال الصلاة وغيرها .
وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذكر هنا عبارة عن الصلاة ; أي : لا يضيعونها في حال من الأحوال فيصلونها قياما مع عدم العذر ، وقعودا وعلى جنوبهم مع العذر . قوله : ويتفكرون في خلق السماوات والأرض معطوف على قوله : يذكرون ، وقيل : إنه معطوف على الحال ، أعني قياما وقعودا وقيل : إنه منقطع عن الأول ، والمعنى : أنهم يتفكرون في بديع صنعهما وإتقانهما مع عظم أجرامها ، فإن هذا الفكر إذا كان صادقا أوصلهم إلى الإيمان بالله سبحانه .
قوله : ربنا ما خلقت هذا باطلا هو على تقدير القول ; أي : يقولون ما خلقت هذا عبثا ولهوا ، بل خلقته دليلا على حكمتك وقدرتك . والباطل : الزائل الذاهب ، ومنه قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وهو منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ; أي : خلقا باطلا ، وقيل : منصوب بنزع الخافض ، وقيل : هو مفعول ثان ، وخلق بمعنى جعل ، أو منصوب على الحال ، والإشارة بقوله : هذا إلى السماوات والأرض ، أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق .
قوله : سبحانك أي : تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلا . وقوله : فقنا عذاب النار الفاء لترتيب هذا الدعاء على ما قبله .
قوله : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته تأكيد لما تقدمه من ، وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار ، وهو أن من أدخله النار فقد أخزاه ، أي أذله وأهانه . وقال المفضل : معنى أخزيته أهلكته ، وأنشد : استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه
أخزى الإله بني الصليب عنيزة واللابسين ملابس الرهبان
وقال أبو علي الفارسي : إن ( ينادي ) هو المفعول الثاني وذكر ينادي مع أنه قد فهم من قوله : مناديا لقصد التأكيد والتفخيم لشأن هذا المنادى به ، واللام في قوله : للإيمان بمعنى إلى ، وقيل : إن ينادي يتعدى باللام وبإلى ، يقال : ينادي لكذا وينادي إلى كذا ، وقيل : اللام للعلة ; أي : لأجل الإيمان . قوله : ( أن آمنوا ) هي إما تفسيرية أو مصدرية وأصلها بأن آمنوا فحذف حرف الجر .
قوله : فآمنا أي : امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من [ ص: 263 ] الإيمان فآمنا ، وتكرير النداء في قوله : ربنا لإظهار التضرع والخضوع ، قيل : المراد بالذنوب هنا الكبائر وبالسيئات الصغائر . والظاهر عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين ، والآخر بالآخر ، بل يكون المعنى في الذنوب والسيئات واحدا ، والتكرير للمبالغة والتأكيد ، كما أن معنى الغفر والكفر الستر . والأبرار جمع بار أو بر ، وأصله من الاتساع ، فكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمته ، قيل : هم الأنبياء ، ومعنى اللفظ أوسع من ذلك .
قوله : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك هذا دعاء آخر ، والنكتة في تكرير النداء ما تقدم ، ، ففي الكلام حذف وهو لفظ الألسن كقوله : والموعود به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به أهل طاعته واسأل القرية [ يوسف : 82 ] وقيل : المحذوف التصديق ; أي : ما وعدتنا على تصديق رسلك ، وقيل : ما وعدتنا منزلا على رسلك ، أو محمولا على رسلك والأول أولى .
وصدور هذا الدعاء منهم مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة ، إما لقصد التعجيل أو للخضوع بالدعاء لكونه مخ العبادة ، وفي قولهم : إنك لا تخلف الميعاد دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد ، وأن الحامل لهم على الدعاء هو ما ذكرنا . وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن قال : ابن عباس قريش اليهود فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين ، وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، فدعا ربه ، فنزلت إن في خلق السماوات والأرض الآية . أتت
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث قال : ابن عباس ميمونة فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ، ثم استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم . وأخرج بت عند خالتي عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والطبراني والحاكم في الكنى ، والبغوي في معجم الصحابة عن قال : صفوان بن المعطل فذكر نحوه . كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق والطبراني جويبر عن الضحاك عن في قوله : ابن مسعود الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم الآية ، قال : إنما هذه في الصلاة إذا لم يستطع قائما فقاعدا ، وإن لم يستطع قاعدا فعلى جنبه . وقد ثبت في من حديث البخاري قال : عمران بن حصين . كانت بي بواسير ، فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة فقال : صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب
وثبت فيه عنه قال : فقال : من صلى قائما فهو أفضل ، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد صلاة الرجل وهو قاعد . وأخرج سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قتادة في الآية قال : هذه حالاتك كلها يا ابن آدم ، اذكر الله وأنت قائم ، فإن لم تستطع فاذكره جالسا فإن لم تستطع جالسا فاذكره وأنت على جنبك ، يسر من الله وتخفيف .
وأقول : هذا التقييد الذي ذكره بعدم الاستطاعة مع تعميم الذكر لا وجه له لا من الآية ولا من غيرها ، فإنه لم يرد في شيء من الكتاب والسنة ما يدل على أنه لا يجوز الذكر من قعود إلا مع عدم استطاعة الذكر من قيام ، ولا يجوز على جنب إلا مع عدم استطاعته من قعود ، وإنما يصلح هذا التقييد لمن جعل المراد بالذكر هنا الصلاة كما سبق عن . وأخرج ابن مسعود عبد بن حميد وابن المنذر في صحيحه وابن حبان وابن مردويه عن عائشة مرفوعا : ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها .
وأخرج في التفكر عن ابن أبي الدنيا سفيان رفعه من قرأ آخر سورة آل عمران فلم يتفكر فيها ويله فعد أصابعه عشرا . قيل : ما غاية التفكر فيهن ؟ قال : يقرؤهن وهو يعقلهن . وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في للأوزاعي . وأخرج استحباب التفكر مطلقا ابن جرير عن وابن أبي حاتم أنس في قوله : من تدخل النار فقد أخزيته قال : من تخلد .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن في الآية قال : هذه خاصة بمن لا يخرج منها . وأخرج سعيد بن المسيب ابن جرير والحاكم عن قال : قدم علينا عمرو بن دينار في عمرة ، فانتهيت إليه أنا جابر بن عبد الله وعطاء فقلت : وما هم بخارجين من النار قال : ، قلت أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم الكفار لجابر : فقوله : إنك من تدخل النار فقد أخزيته قال : وما أخزاه حين أحرقه بالنار ! ، وإن دون ذلك خزيا ؟ .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن جريج مناديا ينادي للإيمان قال : هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وأخرج عن ابن جرير ابن زيد مثله .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال : هو القرآن ، ليس كل أحد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وأخرج محمد بن كعب القرظي ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن جريج ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك قال : يستنجزون موعد الله على رسله .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ولا تخزنا يوم القيامة قال : لا تفضحنا .