قوله : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كلام مستأنف ، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين . والنصيب : الحظ ، والمراد اليهود أوتوا نصيبا من التوراة . وقوله : يشترون جملة حالية ، والمراد بالاشتراء الاستبدال ، وقد تقدم تحقيق معناه . والمعنى : أن اليهود استبدلوا الضلالة ، وهي البقاء على اليهودية بعد وضوح الحجة على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم . قوله : ويريدون أن تضلوا السبيل عطف على قوله : يشترون مشارك له في بيان سوء صنيعهم وضعف اختيارهم ; أي : لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى ، بل أرادوا مع ضلالهم أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو سبيل الحق .
والله أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون وما يريدونه بكم من الإضلال ، والجملة اعتراضية وكفى بالله وليا لكم وكفى بالله نصيرا ينصركم في مواطن الحرب ، فاكتفوا بولايته ونصره ولا تتولوا غيره ولا تستنصروه ، والباء في قوله : بالله في الموضعين زائدة . قوله : من الذين هادوا قال : إن جعلت متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله : نصيرا وإن جعلت منقطعة ، فيجوز الوقف على نصيرا والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرفون ، ثم حذف ، وهذا مذهب الزجاج ، ومثله قول الشاعر : سيبويه
لو قلت ما في قومها لم أيثم يفضلها في حسب وميسم
قالوا : المعنى : لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ، ثم حذف . وقال الفراء : المحذوف لفظ من ; أي : من الذين هادوا من يحرفون الكلم كقوله : وما منا إلا له مقام معلوم أي من له ، ومنه قول : ذي الرمةفظلوا ومنهم دمعه سابق له
أي : من دمعه ، وأنكره المبرد ; لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة ، وقيل : إن قوله : والزجاج من الذين هادوا بيان لقوله : الذين أوتوا نصيبا من الكتاب . والتحريف : الإمالة والإزالة ; أي : يميلونه ويزيلونه عن مواضعه ويجعلون مكانه غيره ، أو المراد أنهم يتأولونه على غير تأويله وذمهم الله عز وجل بذلك ; لأنهم يفعلونه عنادا وبغيا ، وتأثيرا لغرض الدنيا .قوله : ويقولون سمعنا وعصينا أي : سمعنا قولك وعصينا أمرك واسمع غير مسمع أي : اسمع حال كونك غير مسمع . وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والمعنى : اسمع لا سمعت ، ويحتمل أن يكون المعنى : اسمع غير مسمع مكروها ، أو اسمع غير مسمع جوابا .
وقد تقدم الكلام في راعنا . ومعنى ليا بألسنتهم أنهم يلوونها عن الحق ; أي : يميلونها إلى ما في قلوبهم ، وأصل اللي : الفتل ، وهو منتصب على المصدر ، ويجوز أن يكون مفعولا لأجله . قوله : وطعنا في الدين معطوف على ليا ; أي : يطعنون في الدين بقولهم : لو كان نبيا لعلم أنا نسبه ، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ولو أنهم قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك واسمع ما نقول وانظرنا أي : لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا لكان خيرا لهم مما قالوه وأقوم أي : أعدل وأولى من قولهم الأول وهو قولهم سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب ، واحتمال الذم في راعنا ولكن لم يسلكوا المسلك الحسن ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم ، ولهذا لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا أي : إلا إيمانا قليلا ، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض وببعض الرسل دون بعض .
قوله : ياأيها الذين أوتوا الكتاب ذكر سبحانه أولا أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب . والمراد أنهم أوتوا نصيبا منه ؛ لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه ، بل حرفوا وبدلوا . وقوله : مصدقا منتصب على الحال .
والطمس : استئصال أثر الشيء ، ومنه فإذا النجوم طمست [ المرسلات : 8 ] يقال : نطمس بكسر الميم وضمها لغتان في المستقبل ويقال : طمس الأثر أي محاه كله ، ومنه ربنا اطمس على أموالهم [ يونس : 88 ] أي : أهلكها ويقال : هو مطموس البصر ، ومنه ولو نشاء لطمسنا على أعينهم [ يس : 66 ] أي أعميناهم . واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة ؟ فيجعل الوجه كالقفا ، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين ، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ فذهب إلى الأول طائفة ، وذهب إلى الآخر آخرون ، وعلى الأول فالمراد بقوله : فنردها على أدبارها نجعلها قفا ; أي : نذهب بآثار الوجه وتخطيطه [ ص: 305 ] حتى يصير على هيئة القفا ، وقيل : إنه بعد الطمس يردها إلى موضع القفا ، والقفا إلى مواضعها ، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله : فنردها على أدبارها .
قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ؟ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين . وقال : الوعيد باق منتظر وقال : لا بد من طمس في المبرد اليهود ، ونسخ قبل يوم القيامة .
قوله : أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه ، قيل : المراد باللعن هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت ، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير ، وقيل : المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان . والمراد وقوع أحد الأمرين : إما الطمس ، أو اللعن . وقد وقع اللعن ، ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت . قوله : وكان أمر الله مفعولا أي : كائنا موجودا لا محالة ، أو يراد بالأمر المأمور .
والمعنى : أنه متى أراده كان ، كقوله : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، ولا يختص بكفار أهل الحرب ؛ لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالوا : ثالث ثلاثة .
ولا خلاف بين المسلمين أن لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته ، وأما غير أهل الشرك من المشرك إذا مات على شركه . قال عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركا بالله عز وجل . وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك ابن جرير المعتزلة بالتوبة . وقد تقدم قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [ النساء : 31 ] وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن قال : كان ابن عباس رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود ، وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله فيه ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الآية . وأخرج عنه في قوله : ابن أبي حاتم يحرفون الكلم عن مواضعه يعني : يحرفون حدود الله في التوراة .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : يحرفون الكلم عن مواضعه قال : تبديل اليهود التوراة ويقولون سمعنا وعصينا قالوا : سمعنا ما تقول ولا نطيعك واسمع غير مسمع قال : غير مقبول ما تقول : ليا بألسنتهم قال : خلافا يلوون به ألسنتهم واسمع وانظرنا قال : أفهمنا لا تعجل علينا . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن والطبراني في قوله : ابن عباس واسمع غير مسمع قال : يقولون اسمع لا سمعت .
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن قال : ابن عباس كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤساء من أحبار اليهود : منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد ، فقال لهم : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا ، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق . فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد ، وأنزل الله فيهم ياأيها الذين أوتوا الكتاب الآية .
وأخرج ابن جرير من طريق وابن أبي حاتم عن العوفي في قوله : ابن عباس من قبل أن نطمس وجوها قال : طمسها أن تعمى فنردها على أدبارها يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : من قبل أن نطمس وجوها يقول : عن صراط الحق فنردها على أدبارها قال : في الضلالة .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن وابن أبي حاتم الحسن نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن والطبراني قال : أبي أيوب الأنصاري إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية . جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال : وما دينه ؟ قال : يصلي ويوحد الله ، قال : استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه ، فطلب الرجل منه ذلك فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا على دينه ، فنزلت
وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن المنذر بسند صحيح عن وابن عدي قال : ابن عمر إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال : إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا . وأخرج كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم : ابن جرير وابن المنذر عن قال : ابن عمر لما نزلت ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [ الزمر : 53 ] الآية . قام رجل فقال : والشرك يا نبي الله ؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية . وأخرج ابن المنذر عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول إن الله لا يغفر أن يشرك به .
وأخرج أبو داود في ناسخه عن وابن أبي حاتم قال في هذه الآية : إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة . وأخرج ابن عباس الترمذي وحسنه عن علي قال : أحب آية إلي في القرآن إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية .